“خبر عاجل”.. نشرات الأخبار مضرة بالصحة!

«أنقذ رجال المطافئ قطة تسلقت شجرة عالية ولم تتمكن من النزول لساعات» صاحبت الخبر لقطات أظهرت ثلاثة من رجال المطافئ المبتسمين وهم يحيطون بصاحبة القطة محتضنة قطتها بحب. كان هذا آخر خبر في نشرة أخبار عالمية غربية يراقبها ملايين الناس، قدمته الصحافية متمنية للمشاهدين أمسية سعيدة وهي تبتسم. الملاحظ، أن معظم مقدمي نشرات الأخبار، في العالم، باتوا، في العقد الأخير على الأقل، ينهون النشرات بخبر مفرح ومسل. قد يكون الخبر عن إنقاذ حيوان أو العثور على طفل ضائع أو نجاح عجوز مقعد بالسير مائة خطوة لجمع التبرعات لهدف إنساني. وفي نشرة للأخبار في القناة الوطنية التونسية الأولى، مثلا، وفي موسم إعلان نتائج امتحانات البكالوريا، كان خبر نجاح أم عاودت الدراسة مع بناتها هو لحظة الختام. وهناك ما يشير إلى استنساخ النسق نفسه في قنوات عربية أخرى، مما يثير التساؤل عن الأسباب التي تدفع القنوات التلفزيونية، وأجهزة الأعلام، عموما، إلى تكريس وقت ثمين، قد يكلف عشرات الآلاف من الدولارات، ومساحة إعلانية مكلفة في الصحف العالمية، لأخبار تبدو، أحيانا، لفرط هامشيتها، وعدم تماشيها مع بقية الأخبار الرئيسية المؤثرة في العالم، بلا معنى؟
تشير أحدث الأبحاث العلمية إلى أن الأخبار يمكن أن تؤثر بمتابعيها الدائمين بطرق مختلفة، بدءا من التماهي مع ذات الأخطار إلى التسلل إلى محتوى الأحلام إلى احتمال الإصابة بنوبة قلبية. ففي دراسة أجراها علماء في جامعة كاليفورنيا ونشرتها الـ(بي بي سي)، تبين أن متابعة الأخبار السيئة، وتكرار بث الصور واللقطات المأساوية كما في الزلازل والفيضانات والتفجيرات وضحاياها بأجسادهم الدامية والشوارع الملطخة بالدماء، يعرض أولئك الذين لم يروا الانفجار بأنفسهم، لكنهم استهلكوا ست ساعات أو أكثر من التغطية الإخبارية يوميا في الأسبوع الذي تلاه، لضغوط نفسية شديدة تؤثر على صحتهم العقلية.
كما تثبت الدراسة أن التغطية الإخبارية هي أكثر بكثير من مجرد مصدر جيد للحقائق. أنها عامل أساسي في تشكيل وعينا ومواقفنا تجاه الواقع. إذ أن بإمكانها، من خلال تسللها إلى العقل الباطن، التدخل في تفاصيل الحياة بشكل مذهل، يمكن أن يؤدي إلى سوء تقدير بعض المخاطر، وتشكيل وجهات النظر بشأن الدول الأجنبية، وربما التأثير على صحة الاقتصاد بأكمله، مما يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بحالات القلق والاكتئاب. وتؤكد الدراسة، وهي واحدة من عدة دراسات نشرت في السنوات الأخيرة، أن هناك ما يدل على أن التداعيات العاطفية للتغطية الإخبارية يمكن أن تؤثر حتى على الصحة الجسدية، مما يزيد من فرص الإصابة بنوبة قلبية أو الإصابة بمشاكل صحية على المدى البعيد. ترتبط هذه التأثيرات، بطبيعة الحال، بعدد الساعات المكرسة أسبوعيا لمتابعة الأخبار ونوعيتها.

برز نهج جديد في عالم الإعلام، أطلق عليه مصطلح «الصحافة البناءة» يعنى بتقديم الأخبار الإيجابية ذات المصداقية مع التركيز على التقدم الإنساني وتوفير الإمكانيات والحلول.

وإذا كانت الأخبار السيئة هي المصدر الرئيسي للتأثيرات المؤذية فأنه لا يمكن تبرئة المتابع من المسؤولية إزاء مواصلة متابعتها، بلهفة كبيرة. فمن الحقائق المعروفة أن معظم الناس يولون اهتماما أكبر للأخبار المأساوية أو الدرامية من الأحداث العادية التي قد تثير الضجر، وكما قال كاتب الخيال العلمي آرثر سي كلارك «إن صحف المدينة الفاضلة ستكون مملة بشكل رهيب».
وهو أحد الأسباب التي تدفع أجهزة الإعلام، المتنافسة على جذب المشاهدين، والتي تعتمد على عائدات الإعلانات، ومذيعي أخبارها من متلقي أعلى الرواتب، على زيادة الإحساس بالدراما والتوتر لجذب المشاهدين وإبقائهم ملتصقين بمقاعدهم أمام الشاشة حتى عند الإبلاغ عن حوادث صادمة بالفعل. حيث غالبا ما تتم سيرورة بناء الترقب لما هو آت من تفاصيل قد تكون أكثر دموية عن طريق إضافة شريط أحمر أو كلمة «عاجل» أو «تفاصيل جديدة» كما تفعل القنوات الإخبارية العربية.

“الصحافة البناءة”

إزاء هذه التأثيرات السلبية جراء متابعة الأخبار المشوهة لتصور الناس للواقع، وليس بالضرورة إلى الأفضل، برز نهج جديد في عالم الإعلام، أطلق عليه مصطلح «الصحافة البناءة»، يعنى بتقديم الأخبار الإيجابية ذات المصداقية مع التركيز على التقدم الإنساني وتوفير الإمكانيات والحلول. فبادرت بعض المؤسسات الإعلامية الكبيرة، إلى تكريس صفحات للأخبار الجيدة الايجابية، كما تم تأسيس صحف ومجلات ومواقع إلكترونية، في أرجاء العالم، خاصة بهذا النوع من الأخبار. مثالها «صحيفة الأخبار السعيدة» الفصلية المليئة بالقصص المتفائلة من جميع أنحاء العالم، و« بوزتيف نيوز» أي الأخبار الإيجابية، التي أسستها الصحافية شونا كريكيت بوروز عام 1993 كصحيفة تهدف إلى تغيير كيفية اختيار الأخبار ونشرها. حققت الصحيفة نجاحا كبيرا وسرعان ما تطورت إلى «أول مؤسسة إعلامية في العالم مكرسة لتقديم تقارير عالية الجودة ومستقلة حول ما يجري بشكل صحيح حين تمتلئ معظم وسائل الإعلام بالحزن والكآبة».

هل يناقض نجاح مواقع وتداول الأخبار الإيجابية ما توصلت إليه دراسة جامعة كاليفورنيا وغيرها حول تأثير الأخبار السيئة على متابعيها واستغلال أجهزة الإعلام لعامل الشد الدرامي بالكوارث والفواجع، كطريقة لإغواء أكبر عدد ممكن من المشاهدين يساعدها على تحقيق مردود مالي أكبر، بعيدا عن إيصال الأخبار كما هي؟ لا يوجد ما يدل على التناقض، إذ تمكنت أجهزة الإعلام الكبيرة من احتواء نتائج البحوث الدالة على أن الأخبار المأساوية مضرة بالصحة، وأن الأخبار الجيدة توفر طريقا إيجابيا للمضي قدما في الحياة لأنها تجعل الناس سعداء مما يشيع التفاؤل، وبالتالي تحسن الصحة العقلية والجسدية، احتوتها عن طريق تضمين فقرة في نهاية نشرات الأخبار أو صفحة في جريدة لقصص إنسانية إيجابية تتعلق بانجازات فردية أو جماعية، مهما كانت صغيرة، كإنقاذ قطة أو النجاح في زراعة طماطم على سطح مبنى، أو أي شيء مماثل لمنح المتابعين الثقة والأمل في الجنس البشري، بعيدا عن «عاجل» الأخبار الدموية.

Related posts

Top