درس لنا من بلدان الربيع العربي

ما يجري هذه الأيام في مصر، وبقدر ما يهدد بمخاطر على المستوى الداخلي والإقليمي، فهو كذلك ينبه إلى الصعوبات التي تواجه مسلسل الانتقال الديمقراطي في بلد لا تخفى أهميته الإستراتيجية في المنطقة العربية.
وهذا التنبيه ذاته يصلنا كذلك من تونس، ومن ليبيا، ما يطرح أمام المحللين والسياسيين سؤالا كبيرا وجوهريا يتعلق بمدى قدرة البلدان الثلاثة، وأنظمتها الجديدة على الانتقال إلى الحياة الديمقراطية التعددية والحرة والمنتظمة ضمن منطق العصر الحالي… إن أكثر من متتبع للوقائع والأحداث في هذه البلدان، صار يحذر اليوم من تحول ربيعها المبشر إلى خريف حقيقي ينذر بعودة الاستبداد والديكتاتورية والاحتقان.
في مصر أقدم الحكام الجدد على خطوات بلا عقل، نجحت في إعادة الشعب إلى الشوارع والميادين للمطالبة (بإسقاط النظام)، ولازالت الجهود متواصلة إلى اليوم قصد الخروج من المنغلقات…
أما في تونس، فقد نزل النقابيون للاحتجاج، وسالت الدماء في أكثر من منطقة، وبلغ الأمر حد إصابة رئيس الجمهورية المؤقت بالحنق من حلفائه في الترويكا، وخصوصا من الحزب الأصولي الأغلبي…
وفي ليبيا، الوقائع لا تفتح كوة خطو إلى الأمام إلا لكي تعود كيلومترات إلى الخلف…
الواضح إذن في هذه النماذج الثلاثة، أن الاختلاف يوجد حول مستقبل البلاد، أي حول نوع النظام المراد بناؤه على أنقاض الأنظمة الديكتاتورية المنهارة، وهنا يعتقد التيار الفائز بأغلبية الأصوات أن من حقه جر البلاد كلها إلى بداية البدايات، وبالتالي العودة بالحياة إلى ما قبل أربعة عشر قرنا، وهنا يتم إغلاق باب الحوار مع التيارات الأخرى، ويتأسس الصدام، ويصير الحسم في الشارع، وليس في السياسة.
كم هو راهني اليوم، بالنسبة لهذه الدول، منهج (التوافق) الذي كان يثير لدى بعض مغاربتنا السخرية قبل سنوات قليلة عندما أصرت عليه البلاد وقواها الحقيقية، حيث أن(التوافق الوطني) هو اليوم المدخل السليم الوحيد في هذه الدول لتقوية اتفاقها على قواسم مشتركة تهم المؤسسات والعلاقات وشكل الحكم، وسبل الخروج من الأزمة.
ومن جهة ثانية، فان تحول نشطاء سياسيين في البلدان الثلاثة المذكورة إلى رجال دولة يحكمون البلد يفرض عليهم الانتقال بعقلية ممارسة السياسة، وبالخطاب إلى هذا المستوى، وليس ممارسة وظيفة رئيس الدولة أو صاحب السلطة بمنطق القائد الحزبي، فهذا لن يقود إلا لتأجيج المواجهات.
فلما بدأ الرئيس المصري مثلا يتابع كيف ينفض مستشاريه من حواليه، وكيف غادر بعض مقربيه المركب وتركوه قائما لوحده، بدا واضحا أن الرئيس وقع، في موضوع الإعلان الدستوري، ضحية مسايرته لحزبه ولمرجعيته الحزبية، وحتى عندما كان عليه إيجاد الحل لاحتواء الأزمة المشتعلة، كان حزبه وجماعته يدفعان للتصعيد في الشارع وعدم التراجع.
مرة أخرى تقدم لنا بلدان الثورات العربية درسا بليغا حول قيمة وأهمية  التوافق، والإصرار على حماية التعددية السياسية، وعلى تقوية العمل الديمقراطي في البلاد، وتمتين دولة المؤسسات، ورفض كل أشكال التحكم في الحياة السياسية وفي المجتمع، ومحاربة أي ميل إلى الهيمنة من أي طرف كان.
لنتأمل وطنيا في معنى الدرس، وفي حاجتنا المستمرة إلى التشبث به.
[email protected]

Top