درس من فرنسا للنخبة السياسية المغربية

دأبت النخبة السياسية بالمغرب على متابعة ما يجري بفرنسا من أحداث وتطورات سياسية بالخصوص، ويتأثر البعض بما يستجد فيها من أفكار ومشاريع وأطروحات وسلوك سياسي وبرامج سياسية وغيرها.
ارتباط النخبة السياسية المغربية، في اليمين، أو ما يعتبر كذلك، وفي اليسار بمختلف مكوناته ومن طرف الدولة، أمر قائم، لكن الاستفادة بما يستجد في فرنسا يتراوح بين التطبيق أو الاستئناس أو الرفض أو التجاهل حسب متطلبات كل طرف وطبيعة ممارساته للسياسة ومصالحه الآتية.
من الطبيعي، والحالة هذه، أن تتابع النخبة السياسية المغربية وشرائح مختلفة من المجتمع المغربي التطورات السياسية بفرنسا بعد نتائج الانتخابات الأوربية وما تلاها من حل الجمعية الوطنية من طرف الرئيس ماكرون والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة.
وفي إطار هذا الاهتمام العام يندرج هذا المقال الذي لا يتوخى تحليل تلك التطورات إلا فيما يفيد موضوعه ومحوره الرئيس وهو الدروس التي أرى أنه من المفيد للنخبة المغربية التأمل فيها والاستئناس بها فيما هو وطني وما هو مرتبط بالممارسة السياسية عندنا.
لقد كانت نتائج الانتخابات الأوربية في فرنسا بمثابة زلزال سياسي حقيقي طرفاه الأساسيان: تقدم واضح وغير مسبوق لليمين المتطرف العنصري (التجمع الوطني) وهزالة نتائج حزب الرئيس ماكرون (حزب النهضة الذي خلف حزب الجمهورية إلى أمام الذي أسسه ماكرون استعدادا للانتخابات الرئاسية 2017)، مما جعل الرئيس يفتقد، سياسيا، لأغلبيته الجمهورية وأدى ذلك إلى إعلان حل الجمعية الوطنية.
ما هي الخلاصات الممكن تسجيلها والممكن أن تتحول إلى دروس…
-1 في نظام ديمقراطي لا يعتد فقط بعدد النواب في البرلمان ومواصلة الأغلبية مواجهة المعارضة بعدد النواب في البرلمان، فقد كان بإمكان الحكومة القائمة الاستمرار في تدبيرها للشأن العام وتجاهل نتائج الانتخابات الأوربية. الأغلبية الجمهورية قائمة عدديا، لكن، وهذا هو المهم، لم تعد قائمة سياسيا وشعبيا.
-2 إن الحزب المشكل على عجل فقط من أجل ربح الانتخابات لا يستمر كثيرا، والنخب الوصولية، الطامحة والطامعة، المنضمة إليه سرعان ما تتخلى عنه عند أي مستجد سياسي كبير، ولا يمكن اعتباره حزبا سياسيا حقيقيا. فحزب ماكرون في صيغته الأولى (الجمهورية إلى أمام) ثم صيغته اللاحقة (النهضة) لم ينبثق من رحم المجتمع ومتجذر فيه وحامل لأفكار وقضايا وأطروحات سياسية ورؤية للسياسة والمجتمع، لقد تشكل أو بالأحرى تم تشكيله خصيصا للسيد ماكرون، «الذي لم يكن شيئا مذكورا» ولم يكن فاعلا سياسا حاضرا في المجتمع، ليحمل ويدافع ويطبق سياسة نيولبرالية في خدمة رجال الأعمال الكبار والمقررين في الحياة الاقتصادية، هؤلاء من صنعوا «الجمهورية إلى أمام» ثم النهضة وليس حركية المجتمع الفرنسي. لقد أنشؤوا له حزبا (وفي مكان آخر أهدوا له حزبا!!) لحماية مصالح كبار رجال الأعمال وحتى تصفية مكاسب اجتماعية سابقة…
هذا الحزب مني بهزيمة ثقيلة في الانتخابات الأوربية ولن يتمكن، على الأرجح، من مقاومة مد اليمين العنصري المتطرف القريب من قصر ماتنيون والمهدد لقيم الجمهورية الفرنسية والأسس التي قامت عليها.
-3 إن السياسات الموغلة في الليبرالية والمبنية أساسا على خدمة الرأسمال الكبير تفرز أشكالا مختلفة من المقاومة والرفض والمواجهة ليست دائما بأشكال منظمة وبأفق سياسي واضح (السترات الصفراء)، كما أنها قد تدعم توجهات متطرفة كما حدث في فرنسا. ففي تقديري ليس فقط الخطاب العنصري والمعادي للأجانب هو ما يصنع انتصارات التجمع الوطني (مؤثر بالتأكيد لدى شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي لعوامل عدة منها سلوك عدد من المهاجرين واتساع الخطاب الأصولي بل وحتى الممارسات الإرهابية)، بل خطاب التجمع يعتمد أيضا على نقد السياسات العمومية التي تطبقها حكومة ماكرون وتراجع الخدمات العمومية وانخفاض القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي. بل أحيانا يتماهى خطاب التجمع مع خطاب اليسار فيما يخص السياسات الاجتماعية وحتى في بعض القضايا الدولية التي لها انعكاس على حياة الناس في فرنسا.
إنها دروس لليمين، أو ما هو في حكمه، في المغرب ولكل من يعنيه أمر التطور الديمقراطي السليم في بلدنا.
-4 إن اليسار الفرنسي كان بإمكانه أن يكون في وضع أفضل لو استمر في الوحدة التي خاض بها الانتخابات التشريعية الماضية وقدم نفسه في الساحة كبديل عن «الماكرونية» لكن أيضا عن التجمع الوطني العنصري المتطرف. فقد تخلى عمليا عن الوحدة بمجرد ظهور نتائج الانتخابات. اليوم اتحد من جديد في إطار الجبهة الشعبية الجديدة لكن كرد فعل على صعود التجمع الوطني وليس كفعل سياسي مفكر فيه بجدية وعمق بما يكفي من الزمن لبلورة مقاربة موحدة للوضع السياسي، ومواجهة موحدة لليمين بشقية، وصياغة برنامج مشترك دقيق وواقعي وقابل للتطبيق. لقد وجد اليسار أمامه خطرا حقيقيا هو وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، ليس فقط الحكومية بل محتمل أيضا وصوله لرئاسة الجمهورية، وقام في ظرف ساعات بصيغة برنامج على عجل وإعلان الجبهة الشعبية الجديدة، ككائن سياسي جديد أعطى الانطباع لدى شرائح من الناخبين أن الأمر يتعلق برد فعل، والحال أن كائنا سياسيا ذا طبيعة استراتيجية من المفروض أن يكون حاضرا في الساحة السياسية وفي المجتمع لشهور وحتى سنوات كبديل حقيقي يعرف التباس أطروحاته وبرنامج مسوق إعلاميا وحاضر ميدانيا… لم يكن شيئا من ذلك، لذلك يبدو لي أن تبؤ الجبهة الشعبية للصدارة ودخولها قصر ماتنيون في هذه الانتخابات أمر مستبعد رغم أن الوحدة قد تفيد انتخابيا مكونات الجبهة.
هذه الخلاصة قد تفيد اليسار عندنا (المشتت والمتصارع، أحيانا بحدة وحتى الرغبة في إلغاء الآخر). وفي هذا الاطار يمكن استخلاص درس آخر هو أنه من أجل قيام وحدة اليسار لابد من تنازلات متبادلة والتغلب على فكرة الزعامة والقيادة.
فلم يتمسك ميلونشون، إعلاميا على الأقل، بزعامة وقيادة الجبهة كشرط بالنظر لحجمه السياسي والشعبي، ولم يتمسك بقيادة الحزب الاشتراكي بالنظر لماضيه حيث قاد حكومات وحتى رئاسة الجمهورية.
إنها دروس لليسار المغربي، للاستئناس، فلا فعل سياسي مؤثر بالنسبة لليسار بدون وحدته، فأمامنا تجارب أخرى ناجحة وبالخصوص في أمريكا اللاتينية، اليسار يتقدم عندما يتوحد ويضعف حين ينقسم ويتشتت.

بقلم: عبد الصادقي بومدين

Top