إنّ الاعتقاد بكوْن الجلوس إلى الشاعرة المغربيّة مينة عضّار ـ كما إلى كثيرٍ من الكتّاب ـ كفيل بالاستغناء عن القراءة لها، أو حتى الإحاطة بجوانب من أعمالها ليَعدو وهْماً ليس إلاّ، ذلك أنّه على عكس الكثير من الشواعر والشعراء، كلّما ألِفت إلى عضّار، كلّما اغتربتْ عنك نصوصها وأخذك إليها الاشتياق.
فحتى الكلمة التي قدّمت بها لديوانها الأخير “شظايا نضال”، وإن كانت تبدو للوهلة الأولى في ظاهرها حديث ساردةٍ منفصمةٍ غارقةٍ في الذاتيّة والنرجيسيّة وتمجيد الأنا، وفي الآن نفسه جلاّدة لذاتها، إلاّ أنّها في باطنها ذات واعية، مفرَدة بصيغة الجمع، تَصدُر عن وعيٍ عميقٍ وعن مواقف شجاعة وجرّيئة من قضايا شائكة لا زال يَحكمها الطابو في العديد من مناحيها.. قضيّة المرأة بشكلٍ خاصّ، والحرّيات بشكلٍ عامّ.
وكلّ ذلك لا يمكن الكشف عنه إلاّ بالجلوس إلى قصائد ديوانها، بل الإنفراد بها والإنصات إلى نبضها بعيداً عن أيِّ مؤثراتٍ خارجيّة و بَهرجة المهرجانات الشعريّة في غالبها.
أمّا القضايا التي تتناولها هنا شاعرتنا، فهي لا تطرُحها في الطريق، و لكنّها ترتبط عندها بالوجود وتتحقق بالكتابة.. “أنا أكتب إذن أنا موجودة”، ومن ثَمّة وعورة و عمق نصوصها الشعريّة.
تقول في قصيدتها الإفتتاحيّة (الوجوديّة) “من أكون؟”:
“أكتب بعفويّة عن واقعي المر أكتب و أكتب و لا أمل” ص.10.
ثمّ تضيف غير بعيد في الصفحة 12: “أتذكر كيف انتفضت حروفي و كيف صرخ قلمي الخجول”.
الديوانُ الشعريُّ الثاني لمينة عضار بعد ديوانها “ألم و أمل” (25 قصيدة) هو لسنة 2019، صادر في طبعته الأولى عن دار تسراس للنشر و التوزيع، في 123 صفحة من القطْع المتوسّط، و يضمّ قبل القصائد كلُّ ما يلِيق بالخُلُق العلميِّ من إهداءٍ و شكرٍ و كلمةٍ ومقدِّمةٍ جدُّ مختصرة.
ثمّ يلي ذلك من القصائد تسعة عشرة، و هو عدد أكثر من المتوسّط مقارنة مع ما تحويه الدواوين الصادرة في المغرب حديثاً.
و هو أيضاً أمر يعود ـ في نظرنا ـ إلى طبيعة الموضوع الذي يَغوص في النفس البشريّة و يقتضي من أجل ذلك نفَساً طويلاً.
فلا عجب والحال كذلك أن تنحَى نصوص عضّار منحىً فلسفيّاً، وجوديّاً، و أنطولوجيّاً وهي تغُوص في ذاتٍ إنسانيّةٍ مكلومةٍ بواقعٍ موحِشٍ أوقعها في إشكاليّةٍ دونكيشوطيّةٍ مُرعِبة، و أن تفتتِح ديوانها بقصيدةٍ متسائلة:
“من أكون؟”.
و لا عجب أيضاً أن تتنازع في القصائد ثنائيّات ضدّية contres) dualités ).. الشرّ و الخير، و الخوف و الرّجاء، و الخُبث و الحُبّ، و الكذب و الصِّدق،…
و لعل أبرَز هذه الثنائيّات القدَر و اللاّقدَر التي تجاذبت شاعرتنا لمّا حَلّقت بنصوصها في عوالم برزخيّة ما بينيّة (l’entre deux).
و نحن نرى كيف عنونت قصيدتها الثانيّة بعد “من أكون؟”، ب “صراع مع القدر”.
نقرأ في هذا النصّ المؤثّر تعاملاً ملتبساً مع القدر يبدأ بإلباسه الساردة كلّ ما ألمّ بهذا الواقع من انحطاط و ذلك ببلاغة فائقة من الشكوى :
“هذا القدر المتربص بي، يصفعني و يصفعني، على حين غرة، تلاطمني أمواجه، مرة تلو مرة، يراقص أوجاعي، كعاشق ولهان، يقبل دمع خدي، و يمسح عن ثغري أجمل بسمة…” ص.17.
و نقرأ أيضاً: “هذا القدر اللعين، سرق شبابي، سرق أمومتي، خنق رضيعي في المهد… كلما، حاولت الإفلات يضمني إلى، حضنه بشدة، أتعثر و أسقط، و لا مجال للقيام، فسوطه فوق رأسي… ” ص19.
وسرعان ما تتقوّى الساردة فتنتفِض في وجه هذا القدَر البشِع :
” فكسرت قيوده… لم أتح له أي فرصة… ” ص. 20ـ21.
لتنتهي بالتصالح معه و الإذغان لمشيئته :
” وراضية كل الرضى، بقدري و مصيري، و شاكرة الله…” ص.61.
لتبدأ حلقة جديدة من السّخط و الرّضى بالقدر تمتدّ إلى أغلب قصائد الدّيوان.
وقد كان لابدّ من هذه الثنائيّات الضدّية لتضليل هذا الواقع المَشجون و المَسجون، و منحِه فسحة من الجمال (esthétique) لمَدِّ الذات الكاتبة و أيضاً القارئة بشحنة من الشجاعة و الأمل و إنقادها من الإنهيّار.
و كلُّ عناوين القصائد كما نرى، تُحِيل على واقعٍ مستحيل التحمّل !؟ :
الرهينة ـ الصنم ـ الإنتكاسة ـ الضياع ـ النفاق ـ الفِتن ـ الجراح ـ الأنين و الآهات ـ الغشّ.
وإضافة إلى لجوء الكاتبة إلى البرزخ و بعض أوْجه الجمال للتخفيف من وطأة و تواطؤ القدر، تلجأ بالقارىء إلى معارج التصوّف كما في قصيدة “بؤر الفتن” :
“… هيا أهديك لصواب، و خذ اليقين من عندي، لا تأخذ بباطل الكلام، لا تصدق ما لا تراه، فالاستماع غير مجد، فذاك لغو يسعى سفاهة، تاه صاحبه عن الرشد، فارجو من المولى، أن يجنبنا رمحه المؤد، فيا ربي أثني عزمهم، عن الكرهِ و صفعهِم الخد،…” ص.90ـ91.
وفي ثنايا كلِّ هذه اللواعج لا تغيب المرأة عن ناظِرِي الإنسانة مينة عضّار، بل إنّها صوتُها و سمعُها و بصرُها، و قُربانها، و صورة التي انكسرت مرآتها.
وحاصل القول أنّنا في هذا الديوانِ الشعريِّ إزّاء ديوانٍ للمظالم، انحازت فيه عضّار المثقفة العضويّة إلى الإنسان المقهور في كلّ ما يحقِّق له إنسيّته من كرامة وحقوق كاملة غير منقوصة، وهي تُشِيع الأمل:
” سيرفع الوطن راية الانتصار، وتنهي قيثارة الشجن لحن الانكسار، ويعود البوم للأوكار… ويفرج عن التعبير، لا ضرب، لا قمع، لا تنكيل، ولا دم أحدنا بعد اليوم على الأرض يسيل…”. ص.73و75.
رشيد أبوالصبر مع الشاعرة مينة عضّار خلال حفل توقيع ديوانها “شظايا نضال”
> بقلم: رشيد أبوالصبر