الملك محمد السادس: نهج حكم بعنوان سياسة الأوراش الكبرى

منذ اعتلائه العرش في سنة 1999، أصبح الملك محمد السادس رمزا للتغيير والإصلاح في المملكة المغربية. بعد أول خطاب عرش لجلالة الملك ليوم الجمعة 30 يوليوز 1999، انطلق المغرب في مسلسل جديد في مواجهة التحديات والتوجه نحو مخططات تنموية من خلال سياسة “الأوراش الكبرى” التي تهدف إلى تحسين مستوى معيشة المواطنين، وتقوية الاقتصاد الوطني، وتطوير البنية التحتية، وتحقيق العدالة الاجتماعية. سنحاول في هذا المقال تناول عشر مشاريع كبرى بصمت ربع قرن من نهج حكم جلالة الملك.

  • التنمية البشرية والاجتماعية

منذ تولي الملك محمد السادس العرش، كانت رؤيته واضحة في ضرورة وضع الإنسان في صلب الاهتمام التنموي. أُطلقت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في عام 2005 لمحاربة الفقر والهشاشة وتحسين ظروف عيش المواطنين. بلغت الاستثمارات في هذه المبادرة أكثر من 50 مليار درهم (حوالي 5.6 مليار دولار أمريكي) حتى عام 2020، مستفيدا منها أكثر من 10 ملايين شخص. كما أُطلق مشروع الحماية الاجتماعية لتعميم التغطية الصحية والاجتماعية وتقديم الدعم المالي المباشر للأسر المحتاجة، مستهدفا 22 مليون مستفيد إضافي بنهاية 2022.

  • العدالة والإصلاح المؤسساتي

ولأن الواقع كان عنيدا وكان الراحل الحسن الثاني يهيء لمرحلة التناوب التوافقي، والتحضير لتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة في إطار سلسلة من الإجراءات التي بدأت في التسعينيات وتكرست في عهد الملك محمد السادس، ضمن مساعي تحقيق انفراج سياسي وتحسين صورة المغرب دوليا بعد سنوات من الاحتقان والصراع مع المعارضة.

استمر الملك محمد السادس في تطوير المسار السياسي والحقوقي وأسس هيئة الإنصاف والمصالحة في عام 2004 لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في الماضي وتعزيز المصالحة الوطنية. كما تم إصلاح منظومة القضاء بدءا من عام 2008 بهدف تحسين نظام العدالة، وتم تخصيص ميزانية قدرها 2.5 مليار درهم (حوالي 280 مليون دولار) لتحديث البنية التحتية القضائية وتحسين ظروف عمل القضاة. في عام 2011، جاءت دعوة الملك لمراجعة الدستور المغربي وتقديم إصلاحات جوهرية في تفاعل إيجابي وذكي ورصين مع مطالب الحراك المجتمعي، خلصت الوثيقة الدستورية إلى خلاصات دونت وانتصرت للقيم الديمقراطية والشفافية، معززةً حقوق الإنسان وفصل السلطات.

  • التعليم والتكوين المهني وقضية التشغيل

رغم كل التحديات التي يعانيها قطاع التربية والتكوين، إلا أنه شهد تطورا كبيرا خلال حكم الملك محمد السادس. في إطار مشروع التعليم والتكوين المهني، تم تخصيص ميزانية قدرها 115 مليار درهم (حوالي 12.9 مليار دولار) بين عامي 2015 و2021 لتطوير البنية التحتية التعليمية وتحسين جودة التعليم. تم إنشاء 15 مدينة للمهن والكفاءات لتعزيز التكوين المهني وربط التعليم بسوق العمل، مما أسهم في تحسين فرص الشباب في الحصول على وظائف تتماشى مع متطلبات السوق.

  • تطوير البنية التحتية

تعتبر البنية التحتية العمود الفقري لأي اقتصاد قوي ومستدام. مشروع القطار فائق السرعة “البراق” الذي افتتح في 2018 يعد أبرز مثال على ذلك، حيث بلغت تكلفته حوالي 23 مليار درهم (حوالي 2.5 مليار دولار)، وقلصت مدة السفر بين طنجة والدار البيضاء من 5 ساعات إلى ساعتين. بالإضافة إلى ذلك، مشروع ميناء طنجة المتوسط، الذي أصبح أكبر ميناء في أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، ساهم في تعزيز القدرة اللوجستية للمغرب ورفع تنافسيته التجارية. كما يعتبر ميناء الداخلة الأطلسي الجديد من المشاريع التنموية البارزة ضمن النموذج الجديد لتنمية الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية، الذي يأتي وفقا للتوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس. كما تم التركيز على تحديث وإنشاء مجموعة واسعة من المنشآت الرياضية لتلبية احتياجات الرياضيين والمجتمع. شهد المغرب بناء وتحديث العديد من الملاعب الرياضية الحديثة التي تتوافق مع المعايير الدولية، من أبرزها ملعب مراكش الكبير وملعب طنجة الكبير، بالإضافة إلى إعادة تأهيل الملاعب التقليدية مثل ملعب محمد الخامس في الدار البيضاء. كما تم إنشاء مراكز تدريبية متخصصة تهدف إلى توفير بيئة تدريبية متكاملة للرياضيين في مختلف الرياضات، مثل مركز محمد السادس لكرة القدم في المعمورة.

  • ورش التنمية الجهوية والمحلية

في إطار اللامركزية وتطوير الجهات، أطلق الملك محمد السادس مشروع الجهوية المتقدمة عام 2014. يهدف هذا الورش إلى تمكين الجهات من اتخاذ قراراتها بشكل مستقل وتطوير اقتصادها المحلي. تم تخصيص ميزانية تقدر بـ 118 مليار درهم (حوالي 12.8 مليار دولار) بين عامي 2015 و2020 لتحقيق تنمية متوازنة وشاملة. يسعى المشروع إلى تحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية في المناطق النائية وتقليص الفوارق المجالية.

  • الطاقة والاستدامة البيئية

منذ إطلاق مشروع الطاقة الشمسية “نور” في عام 2009، سعى المغرب إلى استخدام الطاقة المتجددة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. مشروع “نور” يعد واحدا من أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم، بطاقة إنتاجية تصل إلى 580 ميغاواط، ويهدف إلى تحقيق الاستدامة البيئية وتوفير طاقة نظيفة ومستدامة. الاستراتيجية الوطنية للطاقة التي أُطلقت في عام 2011 تهدف إلى زيادة نسبة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة الوطني إلى 52% بحلول عام 2030، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة، وتقليل انبعاثات الكربون.

  • الحفاظ على التراث الثقافي وتأهيل الحقل الديني

تعد المحافظة على التراث الثقافي وتأهيل الحقل الديني من أهم أولويات الملك محمد السادس. في عام 2022، أطلق مشروع الحفاظ على التراث الثقافي بهدف حماية المواقع التاريخية والحرف التقليدية وتوثيق التراث الثقافي، مع تخصيص ميزانية قدرها 1.5 مليار درهم (حوالي 170 مليون دولار) لهذا الغرض. مشروع تأهيل الحقل الديني هو الآخر ورش جد مهم  شكل أولية لدى جلالة الملك بهدف تطوير الخطاب الديني وترسيخ قيم التسامح والوسطية في المجتمع المغربي، من خلال تأهيل الأئمة والدعاة وتحديث مناهج التعليم الديني.

  • تشجيع الاستثمار وتطوير القطاعات الحيوية

تشجيع الاستثمار وتطوير القطاعات الحيوية يعدان من الركائز الأساسية لتحقيق النمو الاقتصادي والاستدامة في المغرب. مبادرة المغرب الأخضر التي أُطلقت في عام 2008 تهدف إلى تحديث القطاع الفلاحي وتحسين التكنولوجيا الفلاحية، مستهدفةً زيادة الإنتاجية وتحقيق الأمن الغذائي. بلغت الاستثمارات في هذه المبادرة حوالي 148 مليار درهم (حوالي 16.6 مليار دولار) حتى عام 2020.

  • التعاون الدولي وقضية الصحراء المغربية

قضية الصحراء المغربية تشكل جزءا لا يتجزأ من السيادة الوطنية. منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، حيث بذلت المملكة جهودا دبلوماسية مكثفة لدعم الموقف الدولي للمغرب بشأن هذه القضية. من خلال توسيع شبكة العلاقات الدبلوماسية والشراكات مع الدول المؤثرة، نجح المغرب في كسب دعم سياسي واسع، بما في ذلك اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على الصحراء في عام 2020.

  • ورش التعاون الدولي

تعزيز التعاون الدولي يعد من الركائز الأساسية في سياسة الملك محمد السادس الخارجية. من خلال مشاريع مثل النهج الجيوسياسي للانفتاح الأفريقي ومبادرة الحزام والطريق، يسعى الملك إلى تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الدول الأفريقية والصين. مشروع أنبوب الغاز المغرب-نيجيريا، الذي تبلغ تكلفته التقديرية حوالي 25 مليار دولار، يعكس طموح المملكة في تنمية التعاون الإقليمي والدولي، ويهدف إلى تعزيز الاندماج الاقتصادي الإقليمي وتوفير مصدر طاقة مستدام لأوروبا.

تمثل الأوراش الكبرى التي أطلقها الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش عام 1999 فكرا وتصورا طموحا لتطوير المملكة المغربية على مختلف الأصعدة. تعكس هذه المشاريع التزاما عميقا بتحقيق التنمية المستدامة والشاملة التي لا تقتصر على جانب واحد بل تشمل كافة جوانب الحياة الاقتصادية، الاجتماعية، البيئية، والثقافية. من خلال هذه الأوراش، يضع الملك محمد السادس أسساً قوية لمستقبل مشرق للمملكة المغربية، مبني على العدالة الاجتماعية، التنمية الاقتصادية، والحفاظ على الهوية الثقافية وحماية البيئة.

بقلم: إسماعيل الحمراوي  

عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية

باحث في قضايا الشباب والسياسات العمومية.

Top