في الهوية الثقافية الأمازيغية بالمغرب

 إن موضوع (الهوية الثقافية الأمازيغية) موضوع يجمع بين مفاهيم وقضايا يصعب تسييجها في مقال واحد مهما طال حجمه، ما دام لكل مفهوم من هذا المركب الثلاثي حمولته المعرفية، التاريخية والاجتماعية،  فلو وقفنا عند تعريف كل مفهوم  للكلمات الثلاث لطال شرحه، ويكفي القول إننا وقفنا على أزيد من مائتي تعريف لمفهوم الثقافة وحدها، وقد يكون مثلها لمفهوم الهوية أو أكثر، والأكيد أن الموضوع سيتشعب أكثر إذا ما أضيفت إلى الكلمتين قضية بتاريخها وحمولتها الحضارية والفكرية كالأمازيغية ، لذلك سنحاول منذ البداية تجنب الإغراق في التعريفات والتنظيرات التي قد تسلخ  الموضوع  عن واقعه، دون أن يمنعنا ذلك من التذكير بأن الثقافة من خلال كل تلك التعاريف تظل  هي  نمط العيش، وطريقة الحياة، التي راكـمتها  جماعة بشرية ما في أساليب إدارة  حياتها، ونمط تفكيرها، وآدابها وسلوكها  ومعتقداتها، ومنظومة القيم والأخلاق  التي تحكم تلك الجماعة في الفضاء المجتمعي الذي تعيش فيه وفق علاقات وأنظمة سلوك تؤسس التواصل بين الفرد والفرد، وبين الفرد والجماعة، وبين الفرد والطبيعة، وبينه وبين الوجود عبر أبنية ثقافية محورها اللغة،  لقدرة هذه الأخيرة على حمل كل ذلك من جيل إلى آخر، يعيد إنتاجها والمحافظة عليها وفق حاجيات وشروط تطوره.
من هذا التعريف المركب تستحيل الثقافة الأمازيغية مثل أي ثقافة كلا معقدا يتضمن المعارف والمعتقدات والفنون والآداب والأعراف والقوانين والتقاليد وغير ذلك من المنجزات والقيم وسلوكات الإنسان الأمازيغي كفرد أو كمجتمع. وإذا كانت منظمة اليونسكو قد  عرفت الثقافة سنة 1985 بأنها “جميع معارف الإنسان المتعلقة بالطبيعة والمجتمع”،   فإن الثقافة الأمازيغية في علاقتها بالطبيعة والمجتمع، ظلت في طابعها العام ثقافة جماهيرية قائمة على التداول الشفهي  واستطاعت أن تخلد قيما وسلوكات تمكنت من احتضان إبداعات وابتكارات وأساليب وأدوات عيش الإنسان الأمازيغي، في أشكال منقولة بالتوارث حينا ومبتكرة  أحيانا أخرى، تشبع حاجته الضرورية أو الكمالية:
 فالحاجة الضرورية  مثل الأكل والملبس والمسكن وكل ما يرتبط بذلك من أنماط اقتصادية (رعي ، زراعة، نسيج …) يعتمد فيها  الأمازيغي على الارتباط بالأرض، فكان لباسه الصوف بالأساس، ومسكنه بالطين والطوب والحجارة، وفي مأكله أطباقه الخاصة سواء اليومية أو المرتبطة ببعض المناسبات الأمازيغية الصرفة  القديمة، كتلك المرتبطة برأس السنة، والتقويم الأمازيغي باعتباره واحدا من أقدم التقويمات الإنسانية المحتفلة بخيرات الأرض وثرواتها من خضر وفواكه جافة أو طازجة،  فيتم تحضير وجبات خاصة ( بركوكس: طحين تفتله النساء بأيديهن  في شكل حبيبات صغيرة وبعد أن يطبخ  يسقى بالعسل أو الزيت ( زيت الزيتون أو زيت أركان) حسب المناطق والعصيدة  (تاكلا) وهي أكلة تعد وتؤكل في هالة من الطقوس وقد تحدد شخصية السنة أو صاحب الحظ السعيد، إذا يتم في بعض المناطق إخفاء حبة تمر في العصيدة، ويعتبر محظوظا من تناول تلك الحبة،  ناهيك عن أكلات معروفة بنكهاتها الحارة كتقسولين المعروفة اليوم بتشكشوكا، أو المنسمة ببعض الأعشاب البرية خاصة الزعتر..
 أما الحاجات الكمالية المتوخية: الترفيه أو التزيين أو التجميل كما في الحلي والنقوش والزخارف والفنون الشعبية من غناء ورقص وأشعار وحكايات شعبية، هادفة إلى تيسير وتسهيل الحياة، والترويح عن النفس وحل المشكلات وحفظ المآثر والمنجزات، وإشباع الرَّغبات وتلبية الأشواق، فكان للأمازيغ أهازيجهم ورقصاتهم التي يشارك فيها الرجل والمرأة على السواء، مثلما تجلى في رقصات أحيدوس، أحواش.. وتبقى المرأة أكثر تجسيدا وتشكيلا لتلك الرموز سواء في المنسوجات كالزرابي أو على الجسد في الوشم على الجباه أو الذقون أو نقشا بالحناء على الأكف أو الأقدام..
 على أن اللغة الأمازيغية تبقى مؤسسة المؤسسات، والركيزة الأساس في الهوية الثقافية الأمازيغية  باعتبارها محدد انتماء الأفراد للثقافة الأمازيغية، ذلك أن اللغة الأمازيغية ليست مجرد لهجة أو لغة ووسيلة للتواصل  وإنما هي عوالم بشرية، وحياة تعج  بالحياة والثقافة، إنها الضامن لاستمرار ونقل مختلف التجليات الهوياتية من جيل لآخر، والبذرة المشتملة على الشجرة بالقوة وبالفعل، وفي حال ضياع اللغة الأمازيغية، يتهاوى لا محالة جزء هام من الهوية الثقافية المغربية.  
 إن الهوية الأمازيغية إذن، هي  الصفات الجوهرية التي تجعل الأمازيغي أمازيغيا  بل والمغربي مغربيا  مميزاً عن غيره تَمَيُّزاً يُكسبه فرادته وخصوصيته، ويُحدِّد الصّورة التي يحملها في نفسه عن نفسه، والتي تؤثِّر، بطريقة أو بأخرى، في تحديد المنظور الذي يعتمده لإحالة ذاته إحالةً موضوعيةً في العالم، والذي سيُطلّ من خلالها على الآخرين ليرسم الصّورة التي سيكـوِّنها في نفسه، ولنفسه، عنهم.
هذه الصفات الهوياتية تحوّل الثقافي المجرَّد  إلى معطى أومبيرقي  مجسّد عبر الإنسان واللغة، وطريقة العيش، ونوعية الأكل اللباس.. لتصبح الهوية الأمازيغية بنية مُتَحَوِّلةٌ باستمرار، قائمة على التفاعل مع معطيات المحيط من خلال التنشئة: بنيةٌ مُتَحوِّلة في الثبات،  وثابتة في التحول، فتغدو هوية ديناميكية متفاعلة مع باقي مكونات الهوية المغربية، تدور على  محور الثوابت، المتفاعلة مع السلطة الزَّمنية للتاريخ، وفق غايات الحراك، السوسيوثقافي، والتطور الاقتصادي، السياسي، والقانوني.. وليست بنيةً مغلقةً بائدة كما يحلو للبعض أن يصفها.
 الهوية الأمازيعية  قيم خالدة  تمثل ثوابت الإنسان المغربي عبر تحولاته، فتحيله  ذاتا موضوعية في العالم عبر أنماط سلوكية تؤسس حقائق حضارية ثقافية واجتماعية .. هذه الثوابت تجعل من القضية الأمازيغية قضية وجود مرتبطة بأسئلة، مثل من هو الإنسان المغربي؟ كيف صار على ما هو عليه؟ وكيف يحافظ على ما ورثه من السلف لينقله للخلف؟  بعد أن تمكنت نضالات الأمازيغ من فرض إدراج مكون الأمازيغية كجزء هام في أسمى تعريف للهوية المغربية، بأعلى نص قانوني للدولة، إذ حددت ديباجة دستور 2011 مكونات الهوية المغربية في أربعة مكونات هي (العروبة، الإسلام ، الأمازيغية والحسانية الصحراوية)، بعد أن اقتنع المشرِّع المغربي بأن الدفاع عن الهوية الأمازيغية ليس قضية تعصب عرقي، وترف فكري زائد عن الحاجة  وإنما هي مظهر قوة وعنصر من مكونات التعدد المتلاحم للهوية المغرية،  بعيدا عن كل وهم إيديولوجي  يتغيى تسييس  القضية لتجعل  الأمازيغية (وهي الأصل)  إلى جانب المكونات الأخرى من هذه الأرض صوتا مفردا في  صيغة جمع، و جمعا في صيغة مفرد،  فيغدو المغرب كما ظل عبر تاريخه واحدا وقد التحمت كل مكونات هويته وروافدها لتجسّد هوية وطنية قائمة على الإيمان بالحق في الاختلاف والإقرار بتعددية مصادرنا الثقافية،  بعيدا عن المواقف الشوفينية المتعصبة والمخلصة لكيل التهم، والناظرة للدفاع على التعدد الثقافي واحترام الخصوصية الثقافية دعوة تحركها  معاناة الشعور بالتهميش  والخوف من الطمس والإلغاء، أو التعصب للشرعية التاريخية والعراقة والقدم لتبرير إقصاء المحدث والمستجد التاريخي مما قد يدخل المغرب في حرب طائفية أو عرقية.
    لذلك فإن  النضال المستميت، يجب أن يوجه  من أجل الحفاظ على الأصول والثوابت دون نظرة إقصائية  دونية لأي طرف، مع التطلع لمستقبل منفتح على مبادئ إنسانية  وقيم  تحترم الإنسان، وتحمي حقوقه وحرياته وتصون الهوية المغربية بمكوناتها الأربعة (العربية، الإسلام، الأمازيغية، والحسانية) وروافدها الأربعة (الإفريقية، الأندلسية، العبرية والمتوسطية) مادام هناك شبه إجماع على هذه المكونات والروافد، بدل التعصب الشوفيني الممقوت الذي يقوم على الإقصاء وأحادية النظرة القائمة على الصفاء العنصري للدولة والتي لا تتبناها إلا الدول الدينية الأوليغارشية.
الآن وقد  تم ترسيم اللغة الأمازيغية كلغة وطنية (واللغة أساس الهوية) أصبحت الكرة في ملعب المجتمع المدني للضغط من أجل نسج علاقة متجدِّدة بين مكونات الهوية الوطنية تعزيزا لمسيرة التحرّر وبناء مجتمع مدني حر، ودولة  عصرية  ذات هوية ثقافية واضحة المعالم، مادامت الثقافة صانعة هُوِيَّةٍ يصنعها الإنسان وتصنعه،  تتجاوز الدولة إلى رسم حدود الوطن و بناء المجتمع والأمة، وقادرة على تمييز الأمة عن الدولة، لما للثقافة من رحابة  تمكنها من تجاوز الدولة كمؤسسات ضيقة، إلى خلق التلاحم والتكامل بين مكونات الأمة بمختلف شرائحها.
 وبما أن الهوية الوطنية مدينة للثقافة التي أوجدتها؛ والثقافة الأمازيغية مكونها الأساس، فإنَّ الهدف الأول للدولة يجب أن يتمثل في  تعزيز الهوية الثقافية بكل مكوناتها وإقامة التواصل الدَّائم مع كل تلك المكونات باعتبارها ثروة  وطنية وحضارية، ميزتها التعدد والتنوع،  يرتبط فيها الماضي بالحاضر، والحاضر بالمستقبل،  ومحاربة كل الكوابح التي قد تمنع أي مكون من التجدد والامتيازات التي قد تُـمنح لمكون على حساب الآخر، والعمل على إدماج بُـعد  الهوية الثقافية في كل عملية تنموية بشرية أو مستدامة.
 لقد حافظ الأمازيغ  ولقرون عديدة على هويتهم الثقافية. واشتهروا  بالتفاخر بها عبر مختلف العصور، بما في ذلك العصور التي خضع فيها المغرب جزئيا أو كليا  لسيطرة أجنبية،  آخرها الاستعمار الفرنسي، الذي لم يزد الأمازيغ إلا تشبثا بجميع مظاهر الهوية الثقافية المغربية، بل قد  ساهم التراكم التاريخي في صنع الهوية الثقافية المغربية الأمازيغية، فقوت الإحساس بالانتماء إلى الجماعة والأمة التي لها من الخصائص والمميزات الاجتماعية والثقافية والنفسية والتاريخية، ما يجعلها نسيجا مجتمعيا وكيانا تنصهر وتندمج في بوتقته جماعة بأكملها منسجمة، لها ما يفردها عن غيرها من الجماعات البشرية في مختلف أمصار وأصقاع المعمور.
 وبما أن الإنسان خلق بداهة على  طبيعة الانتماء إلى الأرض / الوطن، وأن هذا الوطن – بما هو جغرافيا وتاريخ، أحياء وأموات  وذاكرة فردية وجماعية –  تعيش فيه هويات،  فمن الواجب ضمان الاستمرارية التاريخية للأمة بهوياتها الفردية، الجماعية والوطنية، والعمل على تحقيق درجة عالية من التجانس والانسجام في مختلف مكونات هوية الوطن، والتعايش بين ثقافاته الأصيلة، والمحدثة المنصهرة في تشكيل الجذع المشترك الواحد بمكوناته الأمازيغية، العربية،  الحسانية، وروافدها الأندلسية، العبرية، الإفريقية.. باعتبارها خليطا متجانسا، وهوية واحدة غير قابلة للتجزيء والتقسيم، جوهرها وحدة  التاريخ والجغرافية والرموز والقيم ووحدة الهدف والمصير كجزء من ثقافة إنسانية واحدة.
 هكذا يكون للاهتمام بالهوية الثقافية الأمازيغية وظائف متعددة، منها ما هو وجودي يتغيى تأكيد الذات الجماعية في محيطها وإثبات وجودها وتحقيق استقرارها واستمراريتها، حرصا على تجنب حدوث أزمة هوية ناتجة عن الإحساس بالإقصاء والخوف من الطمس  والانسلاخ عن الهوية الأصل، ومنها ما هو حقوقي يضمن الحق في الاختلاف والتميز عن الآخر، في إطار التفاعل  مع باقي المكونات الهوياتية الأخرى، لتسمح للذات بالتصالح مع نفسها ومع الآخر، وقدرتها على لعب أدوار متعددة بكفاءة تمارس حقوقها وتعرف واجباتها.

بقلم: الكبير الداديسي

Related posts

Top