مسرحية “توقيع” لفرقة عبور: توقيع بخط اليد أم بالبصم أم بالختم.. أم هو توقيع شهادة مصير بلد بني للمجهول؟

مع مطلع كل موسم جديد، يفاجئنا المبدع عصام اليوسفي بأعمال مسرحية تستلهم الواقع وتستنطق تفاصيله وجزئياته. فالرجل ليس مغرما بالتاريخ ووقائعه العظيمة ولا عاشقا للأساطير وأسرارها الغرائبية ولا زاهدا في محراب الشيخ والمريد، قصد تأصيل طقوس الكتابة المسرحية وشرعنة عقود ازديادها ووثائق وفياتها بالرغم من حضور التاريخ والأسطورة والإرث الثقافي والفكري وهيمنتهم على الحاضر والراهن، خط الكاتب عصام اليوسفي مسارا للكتابة المسرحية، تستقرأ الواقع اليومي، وهنا الواقع بقساوته وعنفوانه والبعض من جماليته.
كتابة تدون كل ما تبقى من صور مرسومة على الجدران ووشم فوق الأرصفة وما سجلته آهات وأصوات العابرين والعابرات في اليومي والعابر والمنفلت، المتصف بالعنف والقساوة والإفلاس والقتامة ونذفا من الأمل. فالكتابة المسرحية كمشروع لديه، يمكن توصيفها بكتابة ميثولوجيا الواقع. ميثولوجيا تمتح متنها الدرامي من عنف مؤسساته وهامشية شخوصه وخلل قيمه وانحصار حقوقه.
فالكاتب الدرامي والمخرج المبدع، وظيفتهما اقتناص حكاية واقعية وتكثيف أزمنتها وتموجاتها اليومية واستنباط قضايا ومشكلات ومعضلات اجتماعية وسياسية وقيمية يمكنها أن تشيد جسرا لفرجة مسرحية تجمع ما بين المضمون النقدي والجوهر الشاعري. هذا ما خطه المبدع زكرياء لحلو صاحب فكرة النص ومشخص دور حمزة، حيث أشار أن نص “توقيع” هو توثيق للحظة تاريخية جد معقدة، بلغة دارجة شاعرية مدونة في سبعة وعشرين لوحة، معبأة بمنولوجات قوية ومحملة بأسس الصراع والتصادم بين الشخصيات لفهم وتحليل وضعية سياسية بئيسة.
في نهاية الأمر، عرض “توقيع” مبادلة ما بين السياسة وعلاماتها المتسلطة وكينونة المسرح وعلاماته الكاشفة والمضيئة لجوهر الصراع الاجتماعي والسياسي والمؤسسي عبر التصادم والتناحر واللجوء إلى آليات التمويه والمناورة، قصد إثبات حقيقة وهمية مخدومة الصنع والإتقان.
من المسؤول عن انهيار العمارة؟ وهل يكفي التوقيع لإعادة ترتيب الصورة المتشققة والمنخورة، بتسوس تاريخي لا ينفع معه جراحون متخصصون في القلع والتقويم والتجميل، ولا عشابة تقليديون مدججون بأدوات الهدم الصدئة لترقيع آمال طبقة مستضعفة، فكها العلوي والسفلي مهدم. إن تكلمت ثغت كالخرفان الجائعة، وإن نطقت نحبت كالغربان النائحة، وإن غنت طنطنت كالنحل الهائج.
في السياسة، الفك العلوي سليم ومعافى دائما ومسلح بكل أدوات التسويغ، وقابل للتعديل حسب كل هزة أرضية. عندما يتوافق يخادع. عندما يخاطب يهادن. عندما يوقع يناور. بينما الفك السفلي معتل ومتردد وغارق في الخرافات والشطحات. عندما يفرح ينسى. عندما يحزن يتعبد. عندما يثور يهيج. عندما يتعب ينصت لعظامه.
لهذا الدافع وضعت عنوانا لهذا النفس. توقيع من؟ وبأية علامة إشارية؟ هل هي بخط الأيادي؟ هل هي بالبصمات؟ أم بالأختام؟ أدخلنا الكاتب والمخرج والممثلون في لعبة مسرحية ذات متاهات رمزية وشفرات وإشارات، للبحث عن دلالات هذا الصداع الدماغي والنفسي والاجتماعي والمدعو السيد توقيع في مختلف صوره.
يقوم المنجز الفني على حكاية كما وقعها صاحبا العرض، الكاتب والمخرج وبتواطؤ مع الممثلين. حكاية تشد حياة أربع شخصيات تنتمي للفك العلوي وتتكأ على روابط عائلية وأنساب عسكرية وانتماءات سياسية وامتدادات اقتصادية وربما حماية خارجية. زكرياء لحلو في دور “حمزة” فاعل سياسي واقتصادي ومتهم في حادث انهيار العمارة. وسيلة صابحي زوجة حمزة “محامية” ومن سلالة عسكرية. هاجر الشركي في دور “كنزة” ابنة عم “سكينة” وعشيقة “حمزة”، مقاولة في الميدان الفني والاقتصادي. محسن مالزي في دور “طارق” أخ “كنزة”. وزير في حزب وبصفة تكنوقراط ومن شجرة عسكرية وزواج سابق من فرنسية. أما أمين ناسور في شخصية “الحسين السجان”، فهو الوحيد الذي ينتسب للفك السفلي. يعذب ويصلي. يتعبد ويسبح. في جهاد مع حلم سيريني (ابن سيرين)، حلم توقيع هوية جديدة.. إمام مسجد وعلامات توقيعه سجادة والتفرغ لزوجتيه وأبنائه الخمسة.
ما بين لوحتي الافتتاح والاختتام اللتين تضعاننا في جو وسائطي سمعي بصري وأيقوني، إذ تخبرنا بحالة الطقس السياسي والأمني والاجتماعي.. متبوعة بلوحة توقيع هويات الشخصيات الخمسة وحالاتهم النفسية المتوترة.. عبر اللوحات الآتية، نكتشف وقائع وتبعات سجن “حمزة” بسبب انهيار العمارة، حيث يتداخل السياسي بالأمني ويؤثر الانتماء العسكري في العائلي ويرتب الجاه والمال ناموس التوازن الهش ويعيد تركيب صورة العائلة المخملية والانتفاعية. فالكل لا تهمه انهيار البناية ولا من أقبر بسراديبها. الكل في مواجهة لإقناع “حمزة” بالتوقيع، لإغلاق الملف والعودة من جديد لترتيبب الأماكن واقتعاد مراتب في وضعية سياسية بئيسة ومضطربة والرابح من له القدرة على امتلاك التوقيع واستعماله بطرق ميكيافلية، كالساحر في ألعاب السيرك.
وُقع العمل من طرف المبدع محمود الشاهدي من زاوية واقعية، حيث حافظ المخرج على روح النص ومنطوقه وبصمات تفاصيله الواقعية، مع التعامل الذكي بعمق شاعري ورمزي ودلالي مع ممثلين، أحسست أنهم قدموا عملا واقعيا منسجما، بنفسية مركبة وازت بين لحظات امتزجت بداخلها تركيبة مصلحية رباعية، الحب والسلطة والمال والعائلة، كقفازات واقية وأقنعة طبقية، وجدت لممارسة كل التوقيعات الممكنة حسب حالات الانتماء لفئة الفك العلوي. أما زمرة الفك السفلي، فهي دائما على استعداد لتوقيع حتفها وخاتمتها بمحض إرادتها أو تحت طائلة الإكراه. وطبعا الإكراه في كل مستوياته وعنفه المادي والرمزي..
عرض “توقيع” يطرح أكثر من سؤال وأكبر من قضية. توقيع سجال هادئ وشاعري، حول وضع سياسي، توقع فيه المؤسسة مراسيم فرجتها حسب السياق ودلالاته وعنف علاماته وحركية وسلطة كائناته.

بقلم: محمد أمين ينيوب*

Related posts

Top