الموت

لم أع مبكرا بشيء فادح اسمه الموت، ارتبط الموت عندي في الطفولة بحلوى الشوكولاط، على اعتبار أن أحد أقاربي الذي كان مريضا وكان يستشعر موته الوشيك، اشتهى تناول تلك الحلوى قبيل وفاته، ولا أذكر أنني حزنت آنذاك، كنت لا أزال طفلا، غير أن الشيء الوحيد الذي شعرت به هو السكون الذي ساد البيت فجأة، حيث أنه تم تعطيل التلفاز عدة أيام، مع ذلك واصلت لعبي دون أن أعير انتباها إلى أن الموت شيء غير عادي وأنه يخلف حزنا عميقا.
مرت سنوات عديدة بعد ذلك دون أن أنتبه إلى أن الموت قد أخطأني في أكثر من مرة، وبالأخص عندما كنت من هواة سياقة الدراجة النارية بدون قبعة واقية، في الواقع لم تكن هواية، بل ضرورة، وحسنا أنها تسمى الدراجة النارية؛ لأنها بالفعل يمكن أن تؤدي إلى الهلاك بنسبة أكبر من أي ناقلة أخرى، أليست تسير على دراجتين فقط؟
أعلم أن هناك حديثا سنيا يتم فيه التطير من ثلاثة أشياء، بينها الدابة، التي يمكن أن تكون الدراجة أو أي عربة أخرى، منذ ذلك الوقت قررت أن أتخلى نهائيا عن ركوب الدراجات. أعتقد أن القطار هو وسيلة النقل الأكثر أمانا من أي ناقلة أخرى، أكثر أمانا من السيارة نفسها، وإن كنت أضطر في كثير من الأحيان إلى أن أستقل سيارة الأجرة الكبيرة، أنا لا أفهم لحد الآن لماذا لا يتم إجبار ركاب سائقي هذه الناقلات على وضع حزام السلامة، فضلا عن ذلك يتم الترخيص بركوب مسافرين اثنين على المقعد الأمامي المخصص في الأصل لراكب واحد.
أحد جيراني حين كان نزيلا بإحدى المستشفيات، نزيلا أو كما نقول في تعبيرنا الدارج: ناعس. أخذا بعين الاعتبار أن هناك حكمة شعبية تؤاخي بين النعاس والموت. كان الكل يعرف أن علاج ذلك الجار، صار ميؤوسا منه، سأله أفراد أسرته في آخر  أيام حياته حول الأكلة التي يفضل تناولها في ذلك اليوم؛ فطلب منهم إحضار وجبة تتكون من لحم الأرانب، يا لها من أمنية جميلة قبل مغادرة هذه الحياة الفانية.
كنت أعتقد حتى وقت قريب أن أي مريض يمكن أن يقاوم مرضه بالأكل، أذكر أنني كنت أحث والدي الذي كان مصابا بتشمع الكبد، على الأكل، يا لسذاجتي، كنت غافلا عن أنه يحدث للإنسان في بعض الحالات، كما في حالته، أن لا يكون بمستطاعه الأكل بالمرة وأن يتوفاه الموت بعد ذلك.
هذا الوضع عايشته كذلك عندما كنت مولعا بتربية طيور الحمام فوق سطح البيت، حدث أنها صارت تمتنع عن الأكل؛ فأخبرتني جدتي بأنها مصابة بداء يسمى بوشنينيق وهو داء معدي، وبالفعل فقد طال هذا الداء مختلف الحمامات التي كانت تقيم في الخم نفسه.  واهتدت جدتي إلى فكرة لعلاج تلك الفراخ، لا أدري مدى القيمة العلمية لهذه الفكرة ومن أين استنبطتها، هي المرأة الأمية البسيطة، حيث وضعت بعض شرائح البصل داخل إناء الماء، وحاولت إرغام حماماتي المريضة على الشرب، أعتقد أنها عاشت بعد القيام بهذه العملية، لبضعة أيام فقط.
عندما أصغي إلى نشرات الأخبار اليومية في إذاعاتنا وقنواتنا التفلزية، غالبا ما أتوقع أن يكون هناك حديث عن موتى وقتلى يتصدر الأحداث، إلى حد يجعل هذه النشرات الإخبارية تتشابه مع بعضها البعض، يحدث أحيانا أن تكون العناوين الرئيسية لهذه الأخبار مسطرة في ذهني: قتلى في فلسطين وسوريا والعراق.. وضحايا وباء إيبولا في أفريقيا الجنوبية.. وحوادث سير مميتة في هذه المدينة أو تلك.. ومنكوبو فيضانات الجنوب..  هذه هي أبرز عناوين الأخبار اليومية.
من رسخ في ذهن مسؤولي هذه النشرات الإخبارية أن الموت هو أهم شيء يمكن الإخبار به؟  
مشاهد كثيرة من حالات الموت مرت في شريط حياتي، منها ما أخطأني وأصاب غيري، منها ما أسمع به فقط وأعتقد أنه لا يهمني، منها ما أتوهم أنه موت طبيعي لكنه في واقع الأمر غير ذلك تماما.

Top