مرحلة جديدة في اليمن

تشهد بعض بلدان الحراك العربي في الفترة الأخيرة أحداثا سياسية تختلف بين هذا البلد والآخر، من حيث الطبيعة والآليات والمآلات، وهي تستحق التأمل والقراءة، وأيضا التطلع إلى أن تفضي كلها إلى تقوية الاستقرار والأمن والحرية والتنمية لفائدة شعوبها.
واحدة من هذه البلدان هي اليمن، التي اختتم فيها مؤتمر الحوار الوطني، وأقيم بها يوم السبت حفل دعا إليه رئيس البلاد للإعلان عن طي صفحة المرحلة الثانية من عملية نقل السلطة، وتأكيد اتفاق الأطراف على الوثيقة النهائية، التي تضمنت بناء نظام اتحادي متعدد الأقاليم، وصياغة دستور جديد.
يتطلع اليمنيون لكي يكون حفل السبت هذا فعلا بداية مرحلة جديدة، تخلو من لغة السلاح والقتل والاغتيالات، وتنكب خلالها كل الأطراف على بلورة التوافقات السياسية الضرورية لبناء البلاد وإنجاح الانتقال الديمقراطي فيها.
هذه الدينامية السياسية المعقدة التي تجري في اليمن يديرها، إلى جانب الفرقاء السياسيين المحليين والشركاء الخليجيين والدوليين، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة ومستشاره الخاص لليمن، المغربي جمال الدين بنعمر، وتشهد له كل الأطراف بالجهد الاستثنائي المبذول من أجل إنجاح المسلسل، وبالتالي الوصول إلى بناء دولة مدنية حديثة وقوية ومجتمع عادل وآمن ومزدهر، وسيتقدم اليوم إلى مجلس الأمن الدولي بتقرير جديد حول الإنجاز المحقق في اليمن، وعن المرحلة التي بلغها المسلسل الرامي إلى حل الأزمة اليمنية.
إن التوقف اليوم عند الوضع في اليمن لا يعني أن الوقائع تسير هناك بشكل سليم وبلا مثبطات، وإنما هو لتجديد التذكير بأن البلدان التي يمكن اليوم أن تصل إلى حلول هي تلك التي تقتنع أن التوافق بين الفرقاء السياسيين هو الحل والمدخل لتحقيق الاستقرار فيها وللاتفاق على محددات الانطلاق والبناء، وهذا هو الدرس الجوهري الذي يبدو أن الأطراف في مختلف الدول العربية الأخرى (تونس، ليبيا، مصر…)، وحتى في سوريا، بدأت تفتح عيونها وعقولها عليه، وعلى ضرورة اعتماده للخروج من كل المنغلقات السياسية والأمنية.
في اليمن هناك معضلة الجنوب متواصلة، وهناك قضية امتلاك السلاح من لدن العشائر والأسر والأفراد، ثم هناك مخلفات تبادل الاغتيالات، وهناك تفاقم الفقر والتهميش والتمييز وتنامي هموم ومآسي الناس في كل المناطق، وهناك الضغائن التاريخية المستمرة منذ سنوات، وهذه كلها ملفات لن تصير محلولة مباشرة عقب انتهاء حفل السبت، أو بمجرد خطاب تلقائي من طرف رئيس البلاد، وإنما هي كلها ستكون محاور عمل الأطراف السياسية في الفترة القادمة، وستتطلب انخراط الجميع وإخلاصهم بلا حسابات ضيقة أو تماطل، وذلك من أجل الخروج بالبلاد من نفقها المظلم، والشروع في صياغة تجربة سياسية وحضارية ربما قد تتضمن دروسا لباقي بلدان المنطقة.
لقد قرن القول المأثور بلاد اليمن بالسعادة خلال زمن السجال الإيديولوجي، لكن واقع اليوم كشف ألا سعادة تحيط بالمكان، وأن الناس تعاني من مآسي وفضائع مروعة، وأن البلاد باتت مطالبة بالخروج السريع من النفق، ولن يتحقق ذلك إلا بواسطة التوافق والجلوس إلى طاولة وطنية مشتركة يقدم فوقها الجميع التنازلات الضرورية، ويمسك الكل بضرورة الأمن والاستقرار وخدمة الشعوب.
لقد نجح ديبلوماسي مغربي إذن في جر أطراف المشهد السياسي والقبلي إلى هذه القناعة، وكتب معهم أولى حروف الصفحة الجديدة، والمأمول اليوم أن تتواصل هذه الدينامية إلى النهاية، وأن تلهم باقي دول المنطقة لتختار هي أيضا طريقها.
[email protected]

Top