موضوع كبير يحتاج إلى نقاش كبير

ليس المهم اليوم في السجال الجاري حول الدعوة إلى التدريس بـ «الدارجة» في بعض مراحل التعليم الابتدائي، التموقع مع ذلك أو ضده في المبدأ أو في التفاصيل، وإنما الأساس هو بالذات هذا النقاش العمومي نفسه.
مع الأسف، النقاش انطلق من خارج دوائر متخصصي اللغات واللسانيين والباحثين في قضايا التربية والتعليم والمثقفين بصفة عامة، ومن ثم جاء بلا «عتاد» فكري ومنهجي، وهذا ما قاد إلى تحويله إلى «حرب» يتم خلالها تبادل القصف والاتهام والشتم من دون أي استدعاء للعقل في مثل هذه القضايا الحساسة وذات الأهمية الكبيرة لمستقبلنا الثقافي والتعليمي.
رغم «نزول» المفكر عبد الله العروي إلى حلبة الكلام حول الموضوع، فإن هذا الاستثناء لم يغير القاعدة المتمثلة في غياب ذوي الاختصاص عن النقاش، وباتت هذه «الحرب» مشتعلة في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى أعمدة بعض الصحف، ولا نحصل منها سوى على… البوليميك.
الكل يتفق على أن تعليمنا في أزمة، وأن المستوى العام للتلاميذ والطلبة عندنا بلغ أسفل سافلين، سواء في اللغات الأجنبية أو في اللغة العربية نفسها، والكل يقر كذلك بافتقار بلادنا، ومنذ زمان، لسياسة لغوية جدية ومحكمة، وعليه، فإن الحديث لا يجب أن ينطلق اليوم من ذيل الكلام، ويتجمد في الجزئيات بلا أي وضوح في الرؤية، وإنما يجب أن يستحضر أن الهدف هو النهوض بتعليمنا أولا، وتأهيل المستوى الدراسي والثقافي واللغوي العام للمتمدرسين المغاربة، وتقوية دينامية التقدم والتنمية، وأيضا الانفتاح على العالم الخارجي، ولا يجب أن يجرنا النقاش إلى الخلف، أو إلى أن نبقى مكبلين بأغلال التقهقر، أو أن نبتعد عن منطوق دستورنا الحالي وأفقه.
إن التدريس باللغات الأم، أو الدعوة لذلك، ليس جديدا، وقد كتب فيه الكثيرون عبر العالم كله، وتوجد أدبيات ونظريات في الموضوع، كما أن اللغة العربية ليست مقدسة حتى يكون محرما الاقتراب منها أو من نقدها، وحتى الحديث عن عربية وسيطة ليس موضوعا جديدا، ولهذا فالنقاش بشأن هذه القضايا يبقى صحيا ومفيدا متى أعطيت فيه الكلمة للمختصين والعارفين، وابتعدنا فيه عن لغة السباب والتجريم، وعن الأحكام الجاهزة.
عندما جرى حشر كثير من الأنوف والأفواه في نقاش كبير يتطلب كثير أدوات ومعارف، غابت عن الحديث الأسئلة الحقيقية، ولم نر سوى الأجوبة والمطالب والتمنيات من هذا الطرف أو ذاك، وكل منهما بقي محصنا في عرينه، ومنه يوجه سهام الشتيمة إلى الآخر.
نسينا أنه عند بداية الحديث عن تدريس الأمازيغية مثلا، انكب كثير من الباحثين على تهيئة اللغة ومعيرتها وإعداد الكتب والمقررات والبرمجيات، ودام ذلك سنوات، ونسينا أن في هذه البلاد لسانيين وباحثين وعلماء بإمكانهم أخذ الكلمة في مثل هذه القضايا التي لا تحتمل التطفل، ونسينا أيضا أن البحث في موضوع تدريس الدين في مدارسنا سبق أن اهتم به الكثيرون قولا وكتابة، وكان بعض هؤلاء قد نبهوا إلى كثير تجاوزات تحفل بها مقررات التربية الإسلامية مثلا، والمؤسف، أن اليوم يصر البعض على إقناعنا بجدة هذا النقاش، أو بوجود مؤامرة ما وراء إطلاقه.
إن الموضوع المثار اليوم، يتعلق بحاجتنا إلى سياسة لغوية في هذه البلاد، وإلى ضرورة تأهيل مضامين المادة الدينية التي تدرس للأطفال في مدارسنا، أي جعل ذلك يروم تقوية الوسطية والاعتدال والانفتاح لدى المتمدرسين، هنا يجب أن يتركز الحديث، وتعطى فيه الكلمة أولا لذوي الاختصاص، وينتظم الأمر ضمن رؤية شمولية استشرافية لإصلاح حقيقي وشجاع لمنظومتنا التعليمية كلها، بلا شعبوية أو قلة نظر.

[email protected]

Top