كلمة عمر الفاسي الفهري في اللقاء التكريمي لإحياء الذكرى 15 لرحيل أحمد الغرباوي

 

أكد عمر الفاسي الفهري القيادي البارز في حزب التقدم والاشتراكية أن الإجماع حول الراحل أحمد الغرباوي، إجماع وطني بكل المعايير، يضم رجالا ونساء من الطبقة السياسية ومن الأوساط النقابية ومن المجموعة العلمية ومن كافة الفئات. وقال عمر الفاسي، في كلمة في اللقاء التكريمي لإحياء الذكرى الـ15 لرحيل أحمد الغرباوي،  أن الحزب خسر بفقدانه رفيق يوجد الجميع في أمس الحاجة لأمثاله، وأستاذ مقتدر وعالم بارز والنقابي محنك ومناضل ملتزم. مشيرا إلى أن الراحل سيبقى ب»النسبة لجيلنا وللجيل الصاعد المثال المقتدى به».
فيما يلي النص الكامل لكلمة عمر الفاسي الفهري:

أيها الحضور الكريم،
عندما اتصل بي الزميل والرفيق الأستاذ موسى الكرزازي للمساهمة في هذا اللقاء احتفاءً وتكريماً بفقيد الجامعة المغربية وفقيد الحركة التقدمية المغربية الأستاذ الكبير والمناضل القح سّي أحمد الغرباوي وذلك بمناسبة مرور خمس عشرة سنة على وفاته وبمناسبة صدور كتاب حول الفقيد قبلت بحماس الاقتراح لأن هذا التكريم فهو بحق في محلِّه. فشكرا لكل الذين أخذوا هذه المبادرة خاصة جمعية سلا المستقبل والمسؤولين عنها.
إن الكلام عن فقيدنا يجرنا إلى تناول سيرته وعطائه على الأقل من ثلاثة جوانب انطلاقا أولا من مميزات وفضائل الإنسان والرجل ثم باعتبار عطائه العلمي بصفته أستاذا وباحثا مرموقا وأخيراً باعتبار التزامه النضالي وعطائه على الصعيد الحزبي والنقابي.
إن فقيدنا ازداد سنة 1940 وسط عائلة بسيطة في قلب منطقة الريف الوسطى، وسط الجبال التي ستعيش الانتفاضة التي وجهت الضربة القاضية للاستعمار ولنظام الحماية بانطلاق عمل جيش التحرير في سنة 1954-1955 ؛ ويمكن أن نقول أن سّي أحمد الغرباوي هو بحق إبن الشعب، فبعد دراسته الابتدائية والثانوية بوزان والرباط، إلتحق بالإدارة المغربية وعمل في إدارة البريد والشبيبة والرياضة. وهذا لم يمنعه من التعاطي بنجاح لعدة أنشطة ثقافية منها على الخصوص كتابة الرواية والشعر والنشاط في ميدان المسرح والسينما إلى درجة أن أصبح نائب رئيس الجامعة المغربية للأندية السينمائية Ciné Club، وقد حصل على دبلوم في الإخراج المسرحي الجامعي من مسرح الأمم بباريس سنة 1963، بعدما التحق بالعاصمة الفرنسية سنة 1962 لمتابعة دراسته العليا.
ولقد تعرفت على فقيدنا خلال هذه التجربة في ميدان المسرح وكنت في ذلك الإبان مسؤولا في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب على صعيد لجنته التنفيذية واتصل فقيدنا بالمنظمة الطلابية ونظم في غابة معمورة لقاءً جمع مجموعة من رجال المسرح أتوا من فرنسا وأطراً من الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وكان هذا اللقاء سببا في إنشاء فيما بعد المسرح الجامعي المغربي (Théâtre Universitaire du Maroc)  والذي عرف تجربة جد ناجحة إذ أن المنظمة الطلابية قدمت في ذلك الحين عرضين مسرحيين بسينما أكدال، مسرحية للكاتب Bertolt Brecht وأخرى لأرابال Arrabal بمساهمة الكاتب التقدمي عبد اللطيف اللعبي ومن إخراج رجل المسرح المعروف المرحوم فريد بن مبارك.
إن معرفتي بالفقيد استمرت تقريبا أربعين سنة وما يمكنني أن أؤكده هو أن هذه العلاقة التي كانت في الأصل أولا في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ثم في إطار حزبي بعدما أصبح قبل مغادرته لباريس ورجوعه للمغرب المسؤول عن فرع باريس للحزب، أصبحت علاقة صداقة وود إلى درجة أن كلما مررت من باريس كنت أسكن بمنزله الذي كان يوجد بالضاحية الجنوبية للعاصمة الفرنسية والذي كنا نقيم به كذلك الاجتماعات الحزبية. وفي هذا الباب، كان الفقيد معروفا عند الخاص والعام بكرمه وبنبله، وعلى الصعيد الشخصي فإن عرفاني بالجميل نحو فقيدنا ونحو زوجته السيدة الفاضلة الكريمة Danielle سيبقى خالداً في أعماقي. شكراً مرة أخرى. بالإضافة إلى كرمه، فإن خصال فقيدنا كإنسان كثيرة، كان رحمه الله يتميز بمعاملة ودية مع الناس وبحرارة في علاقاته وبتواضع لا نظير له وببساطة كبيرة، وفي نفس الوقت بنزاهة وصراحة في تعامله مع الآخرين.   

البعد العلمي عند سّي أحمد الغرباوي
بعدما حصل على دكتوراه السلك الثالث من جامعة السربون La Sorbonne اشتغل سنة 1967 بهذه الجامعة وبالمركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي مما سمح له أن يبتدأ تجربته في ميدان التعليم العالي، وسرعان ما قرر (سنة 1969) الرجوع إلى وطنه والمساهمة في بناء الجامعة المغربية التي كان سنها في ذلك الحين لا يتجاوز عقدا من الزمن وأصبح أستاذا محاضرا بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس ثم سنة 1971 أصبح مسؤولا عن مختبر جيومرفولوجي (géomorphologie) والخرائطية (cartographie) التابع للمعهد العلمي الذي كان في ذلك الحين تابعا لكلية العلوم.
وخلال العشرية (1971-1980) خاض نشاطا علميا متميزا وغنيا حول “الإنسان والوسط الطبيعي في الريف الغربي” أدى به إلى تقديم ومناقشة أطروحة الدولة بجامعة باريس عنوانها
« La terre et l’homme dans la péninsule tingitane : étude sur l’homme et
le milieu naturel dans le Rif occidental»
“الأرض والإنسان في شبه الجزيرة السطحية : دراسة حول الإنسان والوسط الطبيعي في الريف الغربي”
حضّرها تحت إشراف الأستاذ جولي F. Joly وكان من بين أعضاء لجنة الأطروحة علماء مرموقين في علم الجغرافيا ك Jean Dresch مدير معهد الجغرافيا التابع لسربون واختصاصيين ممتازين في جغرافية المغرب مثل Pr Maurer.
وبهذا الإنجاز أصبح الأستاذ الغرباوي الأول الذي حصل على دكتوراه الدولة من جامعة فرنسية في علم الجغرافيا والجيومورفولوجية.
وبعد هذا الإنجاز العلمي حول موضوع يهتم في نفس الوقت بالجغرافيا البشرية والجغرافيا الفيزيائية لمنطقة الريف الغربي فقد اهتم فقيدنا بدراسة منطقة الأطلس ومنطقة الصحراء الغربية، والفضل يرجع له ولطلبته في إنجاز خرائط جيومورفولوجية كثيرة للأرض المغربية. وقد ساهم سنة 1986 في إصدار الموسوعة الكبرى للمغربla Grande Encyclopédie du Maroc بكتابة الباب الخاص بالجغرافية الفيزيائية والجيولوجية Géographie physique et Géologie.
كما أنجز الفقيد خريطتين حول تاريخ المغرب العسكري بتعاون مع اللجنة المغربية للتاريخ العسكري وإدارة المحافظة العقارية. إن الفقيد قد أسس بحق المدرسة العصرية في علم الجغرافيا و الجغرافيا الفيزيائية بوجه خاص.
شخصيا عشت مع الفقيد أحسن وأمتع رحلة قمت بها للشمال الغربي لوطننا. كان قد طلب مني الرفاق بتنشيط وتنظيم اجتماعات حزبية في عدة مدن من شمال البلاد (العرائش، طنجة، تطوان، الشاون) واقترحت على الرفيق المرحوم سّي أحمد الغرباوي أن يرافقني وأن نقوم معا بالعمل الحزبي المطلوب منا. وكانت فعلا بالنسبة إليّ أمتع رحلة إلى الشمال وقد لا أنساها أبدا ؛ إذ أن خلال الرحلة عبر طرق المنطقة ذهبنا من الرباط واستعملنا الطريق الذي يمر عبر العرائش والقصر الكبير ورجعنا عبر طريق الوحدة الذي يمر عبر كتامة ومدينة فاس. وخلال هذه الرحلة كان الأستاذ يعطي لي درسا ممتعا في طبيعة وجغرافية المنطقة وأكثر من هذا كانت لي مناسبة لأتعرف على الشخصية العلمية لسّي أحمد كمُتَمكّن من اختصاصه ومعارفه وكأستاذ ورجل بيداغوجي بكل معنى الكلمة يحاول تبليغ درسه ل”تلميذ” كان أمّيا في هذا الباب. إنه كان واضحا في تفسيراته، دقيقا في تعاليقه، مبرهنا على نظرة شمولية لموضوعه، نعم الأستاذ ونعم المربِّي. فهنيئا للطلبة الذين تتلمذوا على يديه.
قبل العرائش في منطقة عرباوة، وقفنا على حافة الطريق وانطلق في تفسير علمي لطبيعة المكان وموضحا على الخصوص أن النهر الموجود تحت مستوى الطريق كان من قبل فوق مستوى الطريق يمر من تلك الكدية  والدليل على ذلك هو تواجد مجموعة من حصاة ملساء galets التي أصبحت على هذا الشكل بفعل ماء النهر واجترافها.

سّي أحمد المناضل التقدمي والنقابي
فإني لن أطيل في هذا الباب على دور الفقيد على صعيد الحزب منذ صغره والتزامه الدائم مع الحزب ومبادئه وبتضحياته في سبيل أفكار الحزب، ولن أطيل في التذكير بكل ما قدمه الفقيد للحزب وللرفاق من مساعدات وتضحيات عندما كان بباريس وتحمل مسؤوليات على صعيد الحزب وعلى صعيد الطلبة وعلى صعيد جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا (مغرب، جزائر وتونس). إن دوره البارز على صعيد اللجنة المركزية وكذا المسؤوليات التي تحملها على صعيد الاتحاد المغربي للشغل ونضاله في خدمة الطبقة العاملة يعترف به الجميع. أريد بصفة خاصة أن أذكر بدوره على صعيد النقابة الوطنية للتعليم العالي إذ لمدة سنين كان باستمرار ودون هوادة يقبل تحمل المسؤولية داخل مكتبها الوطني ويسمح بذلك حضور الحزب على صعيد قيادتها. إنه كان باستمرار يدافع على مبدأين إثنين الأول يتعلق بالوحدة النقابية والثاني بضرورة استقلالية النقابة عن الحزب وكم كان فقيدنا على صواب بالنسبة لهذا الموقف (في نظري).
إننا اليوم ونحن نحتفي بفقيدنا وفقيد الجامعة المغربية، نود تكريمه لما قام به لصالح بلاده ووطنه، ولا عجب أن نجد حوله هذا الإجماع، إجماع وطني بكل المعايير، يضم رجالا ونساء من الطبقة السياسية ومن الأوساط النقابية ومن المجموعة العلمية ومن كافة الفئات.
لقد خسرنا بفقدانك أيها الرفيق، ونحن في أمس الحاجة لأمثالك، الأستاذ المقتدر والعالم البارز والنقابي المحنك والمناضل الملتزم، إنك ستبقى بالنسبة لجيلنا وللجيل الصاعد المثال المقتدى به، فشكراً مرة أخرى لك أيها الرفيق العزيز، كما أريد أن أعرب بمناسبة هذا التكريم لأفراد أسرة الفقيد لزوجته الفاضلة Danielle ولإبنيه كريم ونعيم بجميل الصبر وأصدق المواساة والتضامن والمحبة. والـســلام

 

Top