خطورة الفراغ…

المتابع اليوم لما يجري في بلدان ما سمي بـ «الربيع العربي» يخلص إلى أنها كلها تعاني، وإن بمستويات مختلفة، من الفراغ السياسي والمجتمعي، ما جعل التحول فيها يدور حول نفسه، وفي أحيان كثيرة يصير عنفا وانفلاتا، أو تراجعا وصل إلى حد اعتبار ما جرى في هذه البلدان… خريفا. في مصر الكبيرة نجح النظام السابق في قتل الدينامية السياسية والمدنية في البلاد، وفي تغييب الأحزاب الحقيقية وإضعافها، وعندما انتفض الشعب ونزل إلى الشوارع لم يجد سوى التيارات الدينية لتقوده، وعندما تدخل العسكر وأوقف كل شيء، لم ينجح في بعث البديل السياسي المدني، وأمسك بكل شيء، ولازال الفراغ سيد كل المواقف. في ليبيا ما بعد القذافي، تواصل الميليشيات المسلحة عنتريتها في الشارع، وعند كل خطو يتململ تبرز كل حواجز الدنيا، ثم يتوقف كل شيء، وتعود البلاد إلى العنف والتوتر و… الفراغ. في تونس، وإن بحدة أقل، الفراغ نفسه يعم المكان، وقد نجح النظام الديكتاتوري السابق في إنهاك الحركة السياسية، وخصوصا الديمقراطية والتقدمية منها، ولما شاءت البلاد أن تتحول، جلس حول المائدة المئات يتكلمون ويختلفون ويتصارعون، ثم بين خطو وآخر يعود كل شيء إلى… الفراغ. وهناك في اليمن، لازال الفراغ يرخي بكل ثقله، ويفرض الأغلال على كل تحرك نحو الاستقرار والتحول، ولا يزرع سوى… الفراغ. أما في سوريا، فإن من أكبر المعضلات والمآسي، أن قمع وعجرفة النظام الديكتاتوري التوتاليتاري طيلة سنوات قتلا الحركة الحزبية المستقلة، وجعلا التعددية هجينة وبليدة وبلا معنى، واليوم ليس في البلاد وحواليها سوى القتل والدم و… الفراغ. وفي العراق، بعد كثير وقت لا يوجد كذلك سوى الخوف و… الفراغ.
المشترك إذن بين كل هذه الجغرافيات العربية الساخنة هو سيادة الفراغ، وانعدام القوة السياسية المدنية المستقلة القادرة على التأطير وقيادة الشعب، والممتلكة للمصداقية ولوضوح الرؤية، وكل القابضين اليوم على السلطة في هذه البلدان لم يستطيعوا إنتاج البديل السياسي القادر على تحقيق الاستقرار والأمن، وعلى بلورة الإصلاحات السياسية والمؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية وعلى بناء الدولة.
إنه الدرس الجوهري الذي تقدمه لنا اليوم الجغرافيا العربية الساخنة، ويقضي بضرورة الحرص على التعددية السياسية والمجتمعية، وتفادي إضعاف الأحزاب الجدية الحقيقية، والعمل، بدل ذلك، على تقويتها وتمتين وحدتها وإشعاعها، وتفعيل حياة سياسية وانتخابية وإعلامية قائمة على الحرية والتعدد والاختلاف حفاظا على كل المؤسسات والميكانيزمات الوسيطة، والتي تبقى حيوية لكل تقدم ديمقراطي، ولتعزيز الاستقرار المجتمعي، وتطوير بنيان الدولة الحديثة.
لنتأمل إذن ما يجري اليوم في الخريطة العربية، حتى ننتبه لأهمية المكتسبات التي يتوفر عليها اليوم المغرب وندرك قيمتها، وحتى ننتبه أيضا إلى ضرورة حمايتها وتطويرها، بدل السقوط في التماهي البليد مع ما يعاني منه الجوار المشرقي والمغاربي.
[email protected]

Top