مبدعون مازالوا بيننا – الحلقة (20)-

 تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

عمر أفوس.. سُلطان النُّور

     لم يكن التشكيلي المغربي الرَّاحل عمر أفوس (1949-2005) فنّاناً عاديّاً، قدر ما كان مبدعاً استثنائيّاً وشعلة وضّاءة داخل كوكبة من أصدقائه الفنانين الذين أسَّسوا جيل الثمانينيات بإبداع ونضج أفراده، وظلَّ طيلة حياته يشق طريقه ومساره الفني بأناة وصبر نادر وكان منجزه يقوم على التفكير والتخطيط والعمق الثقافي، إلى جانب المهارة والصنعة والإتقان، كما تنطق بذلك بصماته الجمالية ومذكراته ومدوَّناته المليئة بتأصيل فكري ونظري عميق يعكس جدِّية عمله..

      شكَّلت التجارب الصباغية السابقة في تجربته تمهيداً لأسلوب صباغي جديد يعتمد أساساً على الاشتغال على جدلية الحضور/الغياب، الوضوح/الالتباس، الظاهر/الباطن، الوجود/العدم من خلال ثنائية الفاتح والغامق والتضاد بين النُّور والعتمة. هذا الأسلوب بدأت ملامحه تظهر في لوحات الفنان ابتداءً من منتصف الثمانينات وكان من سماته الأساسية الانخراط التدريجي في رحلة الضوء والعتمة، أي  كل ما له علاقة بالمرئي السطحي والغوص في الوجدان.

من أعمال الفنان عمر أفوس 1

     هكذا، وبحالة من الشغف اللوني، يتحوَّل البياض في مقابل السواد إلى معادل جمالي ويطفو النُّور من داخل العتمة ليظهر ساميّاً Sublime باعتباره إشراقاً استبطانيّاً. أما السواد، فوظيفته الحجب والإخفاء والطلسم، لكنَّه في لوحات الفنان عمر أفوس يبدو شيئاً آخر يتيح للمتلقي إمكانية النظر إلى الداخل بالمعنى الذي يُفيد خدم الحدود بين المرئي واللامرئي على حدِّ تصوُّر موريس ميرلو- بونتي M. Merleau-Ponty الذي جمع في كتابه “المرئي واللامرئي” (1979) بين الذات والموضوع وبين الرائي والمرئي. هو هكذا السواد لونٌ كُحَلِيٌّ، ملتبس، لُغَزِيٌّ Enigmatique يخفي كل شيء ويظهره في آن، يُرينا ما لا نراه ويفتح شهيتنا لمعرفة كل مستور أو محجوب تماشيّاً مع قول الفنان السيريالي رونيه ماغريت R. Magritte: “كل شيء نراه يخفي وراءه شيئاً آخر نُريد أن نراه”.

     من ثمَّ، أضحى الفنان أفوس ينفذ لوحات صباغية تنمو من خلال رؤية معاصرة ومعالجة تقنية ترسم خرائط الأضداد والتباينات Contrastes في حدود تناظرها وتماثلها بشكل يعطينا الانطباع بكون الفنان يقتفي أثر كلام ابن عربي: “ما من نُور إلاَّ في مقابله ظلمة، وكل ظلمة على قدر نورها، والأنوار متميِّزة، وكذلك الظلم، ما من شيء إلاَّ له مقابل”.

     هذا النمط من الفن، الذي هو تجريدي في لوحات الفنان أفوس، قائم بالأساس على الاختزال والبساطة من حيث قلة عناصره وأشكاله وألوانه، وهو يستلزم جهداً خاصّاً من المبدع في إنجازه ومن المتلقي في استيعابه، وهنا وجب التذكير بأن استعمال اللون الأسود في هذه الأعمال استلزم من الفنان جهداً إضافيّاً وجرأة إبداعية كبيرة، إضافة إلى استعداد نفسي خاص نظراً لما ترسَّب في ذاكرتنا الجماعية من كون الأسود مرتبط بالقبح والفأل السيء. وهذا طبعاً إحساس خاطئ لأن اللون الأسود وإن كانت تشمئز منه نفوس بعض الناس، هو لونٌ بهيٌّ، ويُعتبر إلى جانب البُنِّي والأحمر من الألوان المعبِّرة عن الأرض والتراب وهذه الألوان الثلاثة، رغم أنها جدّ مختصرة، فإن لها بلاغة كبيرة في التعبير، خصوصاً إذا وفق الفنان في البحث عن درجات كل لون ووظفها بشكل جيِّد. في هذا الإطار، كانت تحضره مقولة للفنان الفرنسي بيير سولاج P. Soulage، هي “أن الفنان الجيِّد هو الذي يشيع لوناً كل يوم”.. وأيضاً: “في الفن، كلما كانت الوسائل قليلة كلما زاد التعبير قوَّة”..

     غير أن ثمَّة خاصية جمالية أساسية أمست تَسِمُ اللوحات الصباغية الأخيرة التي نفذها الفنان الراحل أفوس، هي ذلك البياض الناصع الذي يتسلَّل إلى قماشاته المكسوة بألوان ترابية شذرية تكثر فيها الغوامق والدرجات الطيفية الداكنة المعادلة لها والمصحوبة بحُمرة..

     بياض نُوراني.. ونُور أبيض يمنح اللوحة مادتها البصرية الطاهرة وحيويتها الإبداعية المفترضة. والنُّور في لوحاته فيض داخلي وخطاب الرُّوح الذي تلتحم حوله عناصر اللوحة وموادها.

     فالفنان بذلك، كأنما يرسم خرائط البياض.. بياض الرُّوح، والطهر والنقاء، والنُّور بقزحياته المتنوِّعة..

     كان الفنان أفوس على إدراك كبير بأن للون صلة بالرُّوح وبالإحساس الداخلي للإنسان. أليس “اللون هو الموضوع الحقيقي لكل لوحة”، كما يقول الفنان الانطباعي كلود مونيه C. Monet؟

     قوَّة الفنان عمر أفوس وتفرُّده يكمنان في بلاغة ألوانه وفي طريقة معالجاته اللونية لمواضيعه ومفاهيمه التشكيلية المستوحاة من التراث الفني الإسلامي والمؤطرة بمعرفة فنية وبتاريخ حافل بالإبداع..هنا سرُّ نبوغه..

 إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top