فيلم IO CAPITANO: ماتيو غاروني يقتفي آثار موت المهاجرين بين صحراء ليبيا ومياه البحر الأبيض المتوسط

تناولت عديد أفلام سينمائية ثيمة الهجرة غير النظامية، التي تعتبر ظاهرة كونية بين دول الشمال والجنوب، بيد أن فيلم IO CAPITANO (أنا القبطان)، يبقى من القطع السينمائية المهمة، حيث حظي باستحسان الجمهور والنقاد، إلى جانب حيازته على مجموعة من الجوائز الدولية، نظير رصانة حبكته السردية ودقة التشخيص “الإنساني” وبلاغة التصوير.
بمجرد الحديث عن الهجرة غير النظامية من دول العالم الثالث، تتبادر إلى ذهن الجمهور صور التهميش، والفقر، والمجاعة، والحروب، والجريمة، والبطالة، وغياب خدمات التعليم والصحة، ما يعني أن المتلقي يأتي إلى الفيلم بخلفية معرفية وافية حول الموضوع، بيد أن المخرج الإيطالي ماتيو غاروني (Matteo Garrone) حاول أن يكسر أفق هذا الانتظار، انطلاقا من بناء حكاية فيلمية مغايرة لهذا التفكير السردي المباشر، وكذا لتفادي استنساخ تجارب الأعمال السابقة.
اعتمد ماتيو غاروني في هذا العمل على ممثلين اثنين غير محترفين ويتعلق الأمر بسيدو سار (سيدو 16 سنة) ومصطفى فال (موسى)، كانت نقطة انطلاق رحلتهما من دكار عاصمة السنغال، مرورا بمالي ووصولا إلى ليبيا ثم إيطاليا التي يحلمان بتحقيق نجومية موسيقى “الراب” فيها.
تبدأ مشاهد الفيلم (121 دقيقة) من حي شعبي بدكار، الذي رغم ما يعرفه من انتشار للفقر، تبدو على ساكنته مظاهر الانبساط والانشراح والاحتفاء الجماعي بالحياة في “كرنفالات” ليلية، وجلسات حميمية خاصة بين أفراد الجيران، وهو ما يثير انتباه سيدو الذي كان يفكر مليا في فقدان أجواء هذه “الفانتازيا” التي تنسي الأهالي الوضع المعيشي بالبلاد.
حدث ذات ليلة أن فاتح سيدو والدته، بشأن الهجرة غير النظامية، عقب قدومهما من “الكرنفال”، لمعرفة موقفها من الموضوع، حيث عبرت عن حنقها ورفضها الكلي للفكرة التي اتهمت أقرانه بترسيخها في ذهنه، وفي الصباح حذرت ابن عمه موسى إلى ما يخطط له رفقة ابنها الذي بات عازما على الرحيل.
وليعزز المخرج الأصوات الرافضة لهجرة الشباب لوطنهم، صور لنا ردة فعل سيسكو الغاضبة من طلب سيدو وموسى التوسط لهما لتأمين تذكرة عبورهما نحو أوروبا، بعدما جمعا مبلغا ماليا مهما، من خلال الاشتغال اليومي في أنشطة متفرقة، بالموازاة مع الدراسة، وتسيير سيدو لمحل تجاري في ملك والدته.
التخطيط، وجمع المال، ومحاولة إقناع أفراد الأسرة، كلها خطوات لم تكن كافية لسيدو وموسى لمغادرة البلاد، بل احتاجا أيضا، إلى تأشيرة الأجداد الذين في القبور، حيث دعاهما أحد الكهنة إلى طلب التزكية منهم قبل السفر، وهكذا، يحاول المخرج عبر الخرافة والدجل والسحر والشعوذة، التي تعتبر جزءا من الثقافة الشعبية لبعض سكان إفريقيا، إضفاء الطابع الغرائبي والعجائبي التي تؤثث تجربة الهجرة، التي في حاجة إلى التطهير الروحي قبل الاستعداد المادي والبدني.

اقتفاء آثار الموت
شد سيدو وابن عمه موسى الرحال من السنغال نحو مالي على متن حافلة مهترئة، وبما أنهما لا يتوفران على جواز السفر، اضطرا أثناء التوقف في محطة للاستراحة إلى الاستعانة بخدمات أحد الأشخاص المتخصصين في التزوير، بيد أن أمن الحدود المالي سيكتشف هذا التلاعب في الوثائق، وسيطالبهما بمبلغ مادي مقابل السماح لهما بالمرور.
سيفهم سيدو وموسى، انطلاقا من تجربة “جواز السفر” هذه، أن طريق الهجرة غير النظامية، ليست بتلك السهولة التي تصوراها، في ظل وجود الكثير من المبتزين الذين يظهرون في صفة رجال حرس الحدود، ومافيا تهريب البشر التي تسرق الحصيص المالي الذي بحوزة المهاجرين.
وسيتضح هذا الأمر، بشكل جلي، عند الوصول إلى دولة مالي والبحث عن شبكة متخصصة في تهريب المهاجرين عبر الصحراء الكبرى لليبيا، وفي هذا الصدد، برع المخرج الإيطالي بشكل جيد في تصوير مشهد الرحلة التي انطلقت ليلا عبر ثلاث سيارات، فخلف المشاهد “الفوتوغرافية” للكثبان الرملية والجبال الشاهقة للصحراء التي توثقها الكاميرا، يقربنا ماتيو غاروني من وعورة عبور المهاجرين لهذا الفضاء القاحل، الذي لا بد من الاستعانة فيه بخدمات المهربين، بحكم خبرتهم في المسالك الطرقية المؤدية إلى عاصمة ليبيا طرابلس.
كان يعتقد المهاجرون الذين صاحبو سيدو وموسى في رحلتهم القاسية نحو ليبيا، أن الوصول إلى طرابلس سيتم عبر السيارات، قبل أن يطلب المهربون منهم تحت تهديد السلاح، النزول من المركبات وإكمال الطريق مشيا على الأقدام فوق الكثبان الرملية، وسيكتشف المهاجرون باختلاف فئاتهم العمرية نساء ورجالا، وجود جثث بشرية ملقاة بجانب الطريق، فهم منها، عدم صمود المهاجرين في وجه جحيم الصحراء القاسية.
يستدعي قطع الطريق وجود قوة جسمانية ولياقة بدنية عالية، وهو ما لا ينجح فيه الأشخاص المتقدمين في السن، من قبيل سيدة كانت ضمن فوج سيدو وموسى، توفيت أثناء عبور الصحراء على الأقدام، وهو ما تفاعل معه سيدو إنسانيا، وحاول أن يقدم لها المساعدة في الوقت الذي لم يتلفت لوضعها باقي المهاجرين الذين لم يفكروا إلا في أنفسهم.
يعد الابتزاز تحت التهديد أحد العناوين الرئيسية في رحلة المهاجرين غير النظاميين، لهذا يأخذون قبل الانطلاق، احتياطاتهم اللازمة في إبداع أشكال جديدة للاحتفاظ بالمال أطول وقت ممكن، ومقابل هذا التخطيط المسبق، تطور عناصر الحدود والعصابات المنظمة، أيضا، آليات اشتغالها، لاكتشاف الأماكن التي تخزن فيها الموارد المالية للأشخاص المرشحين للهجرة، إذ يحتفظ البعض بها في مؤخراتهم، لهذا، ستدعو قوات الحدود الليبية بعض أفراد قافلة سيدو إلى شرب مادة تسبب الإسهال في حينه، وسيكتشف أمر احتفاظ موسى بالمال في مؤخرته، وهو ما سيترتب عنه جزاء السجن.
إذا كان مصير موسى السجن على يد عناصر الحرس الليبي، فإن سيدو سيجد نفسه بين يدي عصابة للإتجار في البشر، سيحتجز إلى جانب مجموعات أخرى في مكان مقفر، يعذب ويقتل فيه الأشخاص الذين لا تدفع عائلاتهم المال مقابل حريتهم، لكن سيدو سيحالفه الحظ، بعد حصة تعذيب قاسية، في لقاء مارتن الذي يجيد البناء وسيطلب من أفراد العصابة مرافقته أثناء بيعه لفائدة شخص نافذ في ليبيا، يبحث عن بناء يتقن تشييد الأسوار حول المنازل.
سيكون جزاء مارتن وسيدو الحرية، نظرا لإتقانهما للعمل الذي طلب منهما، وسيؤمن صاحب المنزل لهما تذكرة السفر من صحراء ليبيا إلى طرابلس. أول ما فكر فيه سيدو وهو يتواجد في عاصمة ليبيا، البحث عن موسى في الأحياء التي يقطنها السنغاليون، وبعدما باءت محاولته بالفشل، سيصل موسى إلى ورش البناء الذي يشتغل به سيدو، وهو في حالة صحية حرجة، جراء تعرض رجله لإصابة برصاص رجال الأمن الليبي لحظة فراره من السجن.

أنا القبطان.. أنا القبطان
تعبير موسى عن رفضه للذهاب إلى المستشفى قصد علاج الإصابة، سيعجل ببحث سيدو عن الرحيل من طرابلس نحو إيطاليا، التي سيقدم فيها العلاج لرفيقه في الطريق، ولأن ليبيا تعتبر بوابة للهجرة نحو الضفة الأخرى، لم يجد سيدو صعوبة في العثور على رحلة موت فوق أمواج البحر الأبيض المتوسط، بتسهيلات سخية من طرف وسيط تهريب البشر، الذي استجاب لطلبه برحيل شخصين مقابل ثمن تذكرة عنصر واحد فقط.
بيد أن هذا القبول بالعرض، لم يكن مجانيا، بل نظير تكليف سيدو، بمهمة قيادة السفينة المخصصة لنقل أطفال صغار ونساء حوامل ورجال شيب وشباب، من عرض السواحل الليبية باتجاه إيطاليا، فأي ضمير إنساني يسمح بإسناد مهمة بهذا الحجم لشخص صغير السن لا يفقه شيئا في عوالم البحار؟
قبل سيدو العرض على مضض، بحكم حاجته إلى الرحيل، علما أن المهاجرين لم يحتجوا على تكليفه من قبل عناصر العصابة بهذه المسؤولية الجسيمة، وسيبين مخرج الفيلم في الأخير، كيف استطاع سيدو قيادة السفينة بنجاح نحو السواحل الإيطالية، وبدأ يصرخ في وجه راكبي مروحية المنقذين الإيطاليين بصقلية “أنا القبطان.. أنا القبطان..”، رغم الصعوبات التي اعترته داخل البحر، من قبيل مخاض سيدة حامل، واختناق شباب كانوا مختبئين قرب المحرك، إلى جانب نشوب خلافات بين المهاجرين..
تظهر النهاية الإيجابية للفيلم في ظل كل المآسي التي وثق لها، كيف أن ماتيو غاروني حاول أن يكون متفائلا بمستقبل الناجين، الذين يبحثون عن فرصة ثانية لتحقيق ذواتهم في أوروبا، علما أن صحراء ليبيا والبحر الأبيض المتوسط كانا أيما مرة، مقبرة لأحلام الكثير من المهاجرين غير النظاميين.
فهل سينجح سيدو وموسى ومن معهما بعد وصولهم الآمن في تسوية وضعيتهم القانونية أم سيتم ترحيلهم؟ وإذا تم إبقاءهم فوق الأراضي الإيطالية إلى أي حد سيستطيعون الاندماج داخل المجتمع في ظل تولي اليمين المتطرف مهمة حكم البلاد وتنامي الخطاب الرافض لاستقبال المهاجرين واحتضانهم؟
جدير بالذكر، في الأخير، أن فيلم IO CAPITANO، الذي تم تصوير بعض مشاهده بالمغرب، حصل على عدد من الجوائز في مهرجان البندقية السينمائي الأخير (2023)، واختارته إيطاليا لتمثيلها في السباق إلى جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي (2024).

بقلم: يوسف الخيدر

Top