“حماية الحق في الحياة الخاصة”.. محور ندوة برواق وزارة العدل بالمعرض الدولي للكتاب

في أجواء مفعمة بالنقاش الحقوقي والأكاديمي الرصين احتضنت رحاب رواق وزارة العدل عشية يوم السبت 11 ماي 2024 ندوة علمية حول موضوع “حماية الحق في الحياة الخاصة” أطرها الدكتور محمد الساسي والدكتور أنس سعدون وممثل عن وزارة العدل، وسط جمع غفير من الحضور يغلب عليهم عنصر الشباب.

الفصل بين النقاش القانوني والنقاش الفلسفي

استهلت أشغال اللقاء بمداخلة للدكتور محمد الساسي تناول فيها “قراءة في بعض فصول القانون الجنائي”، وخاصة الفصول من 489 الى 493 منه، انطلق فيها من التأكيد على أهمية الفصل بين النقاش القانوني والنقاش الفلسفي، وهو ما يظهر جليا في عدد من المواقف المعبر عنها بمناسبة مراجعة القانون الجنائي، بين اتجاه أول يؤكد على أن رفع التجريم عن العلاقة الجنسية الرضائية بين الراشدين هو أمر مرفوض فلسفيا ودينيا، وبين اتجاه يعتبر ذلك ممارسة للحرية فيطالب بحذف النص، وأضاف أنه “أحيانا نتجاهل المنطق الخاص للقانون وهو لا يتطابق دائما مع المنطق الفلسفي والقانوني”، مستعرضا في هذا المجال عدة اختلالات تثيرها هذه المواد، من قبيل استعمال المشرع لعبارة “الفساد” التي لا علاقة لها بالوصف القانوني للفعل، على خلاف مواقف تشريعات أخرى استعملت عبارة “الزنا”، بل أن عددا من قوانين الدول العربية والإسلامية تجنبت أساسا تجريم العلاقات الجنسية الرضائية بين الراشدين رغم تنصيص دساتيرها على هويتها الإسلامية مثل (مصر في قانون 1937، والجزائر في قانون 1966، وتونس في قانون 1914، والعراق في قانون 1969، والإمارات العربية المتحدة في قانون 1970، وسلطنة عمان في قانون 1974، وبلدان أخرى..)، وذلك لأن تطبيق مثل هذا النص يمكن أن يفضي إلى نتائج أشد إضراراً بالمجتمع من نتائج الفعل الذي يعاقب عليه النص، أي أن هناك إشكالاً قانونياً جديا يطرحه هذا الأخير بغض النظر عن نوع التقييم المعياري الذي يقدمه.

الفصل بين الفضاء العام والفضاء الخاص

في نفس السياق قال الدكتور محمد الساسي، أن الاحتفاظ بالفصل 491 وما يليه من القانون الجنائي المتعلق بالخيانة الزوجية والمشاركة فيها معناه “وضع العازب في وضع أسوء من وضع المتزوج، مادام أن تحريك المتابعة في الخيانة الزوجية يتوقف على وضع شكاية من الزوجة أو الزوج المتضرر، ولكن تحريك المتابعة بالنسبة للعازب تكون مباشرة وبدون شكاية، كما أن سحب الشكاية يؤدي الى سقوط الدعوى العمومية في حق الزوج المتورط في الفعل، بينما لا يستفيد شريكه غير المتزوج من ذلك، معتبرا أن “الإبقاء على مثل هذا النص سيفتح باب الاعتداء على الحرمات إذا هناك ضرر أشد من الضرر المترتب من الجريمة، فالناس الذين يقومون بعلاقات جنسية في دوائر مغلقة ونطرق عليهم الباب، لنتساءل ماذا يفعلون، في تلك اللحظة التي تقوم فيها الضابطة القضائية بطرق الباب، ما هو الأساس القانوني لهذا التدخل، ولماذا نفترض سوء النية، فإذا كان الأساس هو اشتباه أن يكون هناك رجل وامرأة يمارسان الجنس، فهذا معناه عمليا تجريم الاختلاء، ومن قال بأن اختلاء رجل بامرأة من حيث المبدأ يجب أن يجرم فهو يتعسف على النص القانوني وعلى مبدأ الشرعية الجنائية.
في نفس السياق لفت الدكتور محمد الساسي الى أن المطالبة برفع التجريم عن العلاقات الرضائية بين الراشدين لا تعني بتاتا الإباحية، كما لا تعني إمكانية استباحة الفضاء العام، الذي يبقى خاضعا لتأطير مجموعة من القواعد التي تنظم العيش المشترك، معتبرا أن الفصل المتعلق بتجريم الاخلال العلني بالحياء كاف لمنع ممارسة العلاقات الرضائية بين الراشدين في الفضاء العام.
كما أن القول برفع التجريم عن الخيانة الزوجية لا يعني هدر حق الزوجة أو الزوج المتضرر من هذا الفعل، حيث يبقى لهما جبر الضرر اللاحق بهما في اطار قواعد المسؤولية المدنية.

تضخم تشريعي في النصوص المتعلقة بحماية الحياة الخاصة

وقدم الدكتور أنس سعدون عرضا يحمل عنوان: تقاطعات في حماية الحق في الحياة الخاصة، انطلق فيه من بيان الأهمية التي أضحى يحتلها هذا الموضوع في النقاش العمومي أمام التحديات التي تفرضها التحولات التكنلوجية والعلمية ومن آخرها ما يطرحه الذكاء الاصطناعي من تحديات مستجدة، معتبرا أن الواقع في كثير من الأحيان يؤكد أنه أصبح يتجاوز النصوص القانونية، رغم لجوء المشرع في كل مرة الى ادخال تعديلات تشريعية متعددة، معتبرا أن حماية الحق في الحياة الخاصة لا تستوجب بالضرورة تدخل المشرع الجنائي، إذ أنه يمكن توفير الحماية من خلال قواعد المسؤولية المدنية القائمة على التعويض، فضلا عن الأدوار التي تقوم بها اللجنة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية، مؤكدا على أهمية مراعاة البعد الحقوقي في المعالجة القانونية لقضايا الحياة الخاصة.

أحكام رائدة في مجال حماية الحق في الحياة الخاصة

واستعرض المتدخل في مداخلته عددا من الاحكام القضائية الصادرة عن مختلف المحاكم المغربية في مجال حماية الحق في الحياة الخاصة، من بينها حكم المحكمة الإدارية بالرباط الذي اعتبر أن “تضمين شهادة عمل موظف، ملاحظة تشير الى غيابه بسبب مضاعفات مرضه، يشكل مساسا بمعطياته الشخصية الحساسة، مما يبرر تدخل دور القضاء الاستعجالي لرفع هذا الاعتداء المادي”، وحكم المحكمة التجارية بالدار البيضاء بأداء شركة للانتاج تعويضا لورثة فنان مشهور عن الضرر الذي لحقهم عن انتهاك حرمة حياتهم الشخصية، وأكدت المحكمة أنه بعد اطلاعها على سيناريو المسلسل ومشاهدة أربع حلقات منه، تبين لها أنه تطرق أيضا لحياة شخصيات بعض المدعين وهم المدعية والدة الفنان الراحل، و أخواته، وكذا صهره زوج أخته، وهو ما يعد انتهاكا للفصل 24 من الدستور الذي خول لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة. وحكم المحكمة الابتدائية بالقنيطرة الذي قضى باستبعاد محضر، بسبب عدم شرعية الدليل الجنائي بعد قيام ضابط أمن بتفتيش هاتف أحد المشتبه فيهم وقراءة الرسائل النصية دون أمر قضائي، وحكم المحكمة الابتدائية بالرباط بإدانة متهم من أجل جنحة تصوير شخص بدون اذنه طبقا للفصل 447 من القانون الجنائي، ومعاقبته ب 6 أشهر حبسا موقوفة التنفيذ، وغرامة نافذة قدرها 2000 درهم، بعدما تقدمت المشتكية بشكاية للشرطة تعرض فيها بأنها والمتهم يتابعان الدراسة بنفس المؤسسة، وبأنه تعقبها في الترامواي ، وقام بالتقاط صور لها، دون اذنها، ونشرها في حسابه الفيسبوكي، مما تسبب لها في ضرر نفسي كبير، واعتبرت المحكمة أن اعتراف المتهم بالتقاطه صورة لزميلته ونشرها والتعليق عليها عبر موقع التواصل الاجتماعي دون اذنها، يجعل المنسوب اليه ثابتا، ونظرا لكونه يتابع الدراسة الجامعية وحداثة سنه وانعدام سوابقه القضائية قررت تمتيعه بظروف التخفيف وجعل العقوبة موقوفة التنفيذ في حقه.

احترام الخصوصية في الأحكام والحق في النسيان

من جهة أخرى تطرق الدكتور أنس سعدون إلى عدد من الإشكاليات التي تثيرها مشاريع تعديل القوانين من أبرزها مشكل تضمين معطيات تتعلق بالحياة الخاصة في صلب الأحكام القضائية في الجزء المتعلق بالوقائع، رغم ما يسببه ذلك من احراج لأطراف الدعوى، بعد تسلم نسخ من الاحكام القضائية، باعتبار أن هذه الأحكام قد يطلع عليها الأغيار عند تقديمها أمام الإدارات، وهو ما قد يمس بحق آخر وهو الحق في الدخول في طي النسيان الذي يعني حق الفرد في بقاء ماضيه محاطا بسياج من الكتمان وعدم خروجه بعد فترة زمنية معينة إلى العلن، مقترحا ضرورة حذف الوقائع من صلب الأحكام القضائية خاصة في قضايا الأسرة، كما تطرق أيضا الى إشكالية عدم احترام الحق في خصوصية الضحايا في بعض المحاكمات الزجرية بما في ذلك قضايا الأحداث لأن السرية مفروضة حينما يكون الحدث متهما، ولا تكون مفروضة حينما يكون الضحية طفلا، وهو ما يؤدي في بعض الأحيان الى انتهاك الحق في خصوصية الضحية الحدث، كما يطرح اشكال آخر على مستوى السرية التي قد تأمر بها المحكمة خلال جلسة المحاكمة وما اذا كانت تقتصر على جلسة الاستماع الى الشخص الذي قررت السرية لمصلحته، أم تمتد أيضا لجلسة المناقشة ولمرافعات الدفاع، مؤكدا ضرورة استحضار أخلاقيات المهنة التي لا تقل أهمية على مقتضيات القانون.

أثر النصوص الجنائية على النوع الاجتماعي

أطوار الندوة عرفت تفاعلا كبيرا بين الحاضرين، حيث أكدت الوزيرة السابقة نزهة الصقلي على ضرورة مراعاة أثر بعض القوانين على النوع الاجتماعي، مستحضرة التطبيقات العملية للفصول المتعلقة بالحريات الفردية، إذ أن غالبية النساء ضحايا جريمة الخيانة الزوجية يتنازلون لفائدة ازواجهم دون أي شروط، بل ولا يقدمون أي شكاية، بينما يكون تنازل الرجال ضحايا هذه الجريمة مشروطا اما بتنازل زوجاتهم عن مستحقاتهم أو عن حضانة الأطفال، كما أن الفصول المتعلقة بالاغتصاب تؤدي بعدد من الضحايا اللواتي يقدمن شكايات أمام القضاء الى متابعتهن بجرائم أخرى في حالة عدم اثباتهن وقوع الفعل، كما ركزت مداخلات أخرى على أهمية احترام القانون لحريات الأفراد ولقناعاتهم ولخياراتهم في الحياة، ومراعاة الضرورة والتناسب في كل القيود التي يفرضها المشرع.

Top