الأوبئة والتاريخ، القوة والامبريالية -الحلقة 4

يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.

ردود أفعال المجتمعات الأوربية والشرقية القديمة في التعامل مع الأوبئة

يعتبر المهاجرون ذوي أهمية خاصة بالنسبة إلى الدراسات التحليلية لنماذج الأمراض الوبائية تحت ظرفين الأول: عندما تتحرك مجموعة من الناس من منطقة خالية من المرض أو تتصف بإصابة ضعيفة – إلى منطقة أخرى شديدة الإصابة. هنا يمكن مقارنة تجربتهم مع المرض مع تلك التي للسكان المحليين ذات الإصابة الشديدة. وربما يحضر مجموعات المهاجرين معهم نماذج (أشكال مختلفة من المناعة للمرض، ومن خلال عادات مختلفة تتعلق بالطعام والشراب ربما يظهرون استجابات مختلفة التأثيرات الضارة في البيئة الجديدة التي انتقلوا إليها. على سبيل المثال، فقد ظهر أن مجموعات المهاجرين من جزر البولينزيا بإندونيسيا إلى نيوزيلاندا صاحبها ارتفاع حاد في نسبة الإصابة بارتفاع ضغط الدم، والبول السكري، والنقرس. وقد بينت الدراسات أن حدوث هذه الأمراض الثلاثة يرتبط بوجود عامل يتعلق بالبيئة الجديدة کتفسير محتمل لظهور هذه الأمراض.
الثاني : عندما تتحرك مجموعة من الناس من منطقة ذات نسبة إصابة مرتفعة من المرض إلى منطقة ذات نسبة إصابة منخفضة أو تتميز بعدم وجود المرض. في هذه الحالة فإن المجموعات المحلية من السكان تتعرض للإصابة الشديدة لعدم وجود مناعة لديها وهو ما حدث عند هجرة الأوروبيين إلى الأمريكتين. فقد كانت هذه المناطق خالية من أمراض مثل الجدري والزهرى التناسلی والإنفلونزا، وهو ما أدى إلى الإصابة الشديدة للسكان المحليين بهذه الأمراض وحدوث الوفاة بنسبة مرتفعة، ومن ثم إلى انهيار التركيب السكاني لهذه المجتمعات بدرجة كبيرة، بل إلى انقراضها

دراسة علم الأوبئة

هناك عدة طرائق من أجل دراسة نماذج الأمراض الوبائية وكيفية انتشارها. فهناك الطريقة الأولى وهي الطريقة الوصفية أي “علم الأوبئة الوصفي”، وفيه نقوم بالملاحظة عن قرب للحالات التي تنشأ خلال الانتشار الطبيعي للمرض، وهو ما يمكن أن نطلق عليه علم أوبئة الفرصة أو الظروف -epidemi logy of opportunity، وتجري الطريقة الثانية من أجل دراسة مدى تكرار هذه الأوبئة، ودراسة نوعية الناس الذين يعانون من هذه الأويئة، وأين ومتى حدثت هذه الأوبئة، وهي الطريقة الاسترجاعية لدراسة الأوبئة retrospective epidemiology. وفي هذه الحالة تتم الدراسة من خلال تقارير الرحالة وكتبهم والمذكرات وسجلات المعامل والمستشفيات. وتعد كتب التاريخ التي يتعرض فيها المؤرخون لوصف الأوبئة مصدرا مهما لهذه الطريقة، كما أن الكتب الدينية تعد أيضا من المصادر المهمة، أما الطريقة الثالثة فتعتمد على وضع الفروض لتبيان الارتباط بين عاملين يبدو أنهما غير مترابطين بالنسبة إلى نماذج انتشار الأمراض، وذلك مثل فرض علاقة ما بين مرض البول السكري وانتشاره بين بعض المجموعات العرقية المعينة ودور الوراثة في ذلك، ويطلق على هذه الطريقة تعلم الأوبئة المستقبلي أو المنتظر “” Prospective epidemiology.
كان الغرض من التعريف بعلم الأوبئة هو إظهار دوره في التحكم في هذه الأوبئة ومقاومتها، وهي الوظيفة الأساسية التي ترتبط بهذا العلم. وفي هذا السياق يسلط هذا الكتاب الضوء على نقطتين مهمتين وهما: أولا: ردود الأفعال في كل من المجتمعات الأوربية والمجتمعات الشرقية القديمة مثل الهند والصين ومصر في التعامل مع هذه الأوبئة، ونمط التحكم في هذه الأوبئة وطرق مقاومتها، فاستجابة كل من هاتين المجموعتين من المجتمعات كانت جد مختلفة تجاه الأوبئة نفسها التي حصدت أرواح الملايين من البشر. فالمجتمعات الأوربية التي استعملت تقنيات العلم الحديث كانت لها أساليبها الخاصة والمتوارثة في التحكم ومقاومة الأمراض المتوطنة فيها endemic disease مثل الجذام والزهري، وقد طورت هذه المجتمعات تقنيات ومعارف حديثة نقلتها من علم الأوبئة العربي منذ القرن الرابع عشر واستخدمتها في مقاومة أوبئة تعرضت لها بعد ذلك. وبالمقابل فقد كان للمجتمعات القديمة مثل الصين والهند تقنيات للتحكم في أمراض متوطنة لديها مثل الجدری والكوليرا والجذام، لكنها طبقت تقنيات أخرى عندما وقعت تحت هيمنة الاستعمار والإمبريالية منذ القرن التاسع عشر، وعندما أصبحت هذه التقنيات الطبية ضمن أدوات الإمبريالية التي تستخدمها في الهيمنة على مصادر هذه الشعوب.

> إعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top