سفر دون تذكرة

أخبروا أيلول العام القادم أن يتأخر، أخبروا السنونوات أن تؤوب، فقد فقدت نفسي في حقيبة روحه، ونسيت أن أكبر..
ربما، لا سبيل مجددا لقطع ميل آخر نحو قلبه، إلا بعد حرب طاحنة نتواطأ فيها مع مكر الحب، لا سبيل لكتابة المزيد من الأسطر المؤلمة فأصغر الأشياء أصابتنا مرات كثيرة، وددت دائما أن أكون ما أنا عليه داخل النصوص بكل سجيتي، بكل بأسي الوسيم حتى وإن أتيت متأخرة، دائما ما كنت أسأم كوني إمرأة تحترق ولا تنتهي..
ماذا لو أصبحت فناجين القهوة دون نقوش، والوجوه باتت دون ملامح، واللحظات غادرتها التفاصيل ؟!
فقط أعيدوني إلى ذاك الدرب حيث تنام على كتفي الأرجوحة وصغار الشوق، انتشلوني من بئر الحنين.. ومن يتفقد ساعي البريد فقد تاه منذ تسعين لهفة..
لطالما كانت حروفي ممدودة لمصافحتك في كل مرة، لكنك كنت مصرا على شحن المسافة بيننا، طويتَ الأسباب ورفعتَ سقف الشعور، وطعنتَ أبجديتي باللامبالاة فبللت بالحزن ياقة انتظار المكاتيب..
يا له من قدر قاس.
من يخبر سروتنا أن تفتح ذراعيها لليمام؟
من ينادي على الأزقة الثملة لتستيقظ؟
ما لا تعرفه عني أيها العابر، أن صدري معبأ باللعنات، بالقلق بالعناد، بالغضب، بالندم، برائحة الذكرى، بباب صغير لا يفتح قفله إلا لوجهك الأحمق، بالمناسبة لازلت أحب ذلك الوجه الغير مكترث.
بربك أخبرني كيف أتجاوز تلك الليلة حين أشعلتَ أعقاب السجائر ومددت أصابعك نحو الأفق وأوهجتَ النجوم في جو مهيب، أقمتَ حفلة جنائزية بمناسبة انهيارنا المذهل..
أخبرتني أني مجنونة أيامك السيئة وأني بحياتك استثناء؟
ماذا لو ترملت القصائد، والحروف غدت بليدة، وأصبحت دالية البيت بلا عناقيد؟!
ترى هل تنسانا المواعيد؟
كيف أنسى من صنع لي أجنحة وجعلني أحلق فوق بحور المجاز، مرة أكتبه بطلا متهورا أصابني بصداع في عمق قلبي.. ومرات كثيرة أجعله يبدو كأمواج البحر المتلاطمة .
لا أحد ينسى الأمور العظيمة، إحداها يوم أحببتك…
لا أحد ينسى من تخطى الكون كله وانحشر في قلبٍ صغير، من أعارني كل الانتباه واكتفى بفواصل الصمت، من تورط بموسيقاي، بأبديتي وقال يا فتاتي عاديتك تفقدني صوابي، ابتسامتك تفقد الحياة وسامتها وتجعل الليل لص مشاعر يسير إليكِ مهزوم ليصرخ.. كفاكِ عن احتوائي كفاكِ!
ماذا لو استبدلنا أصابعنا بعقود الليلك وشرعنا أبواب الذكريات ودعونا أسراب اليمام لترقد على العتبات .

لتفوت أخطائي متعمدا ثم تحتفي بغضبي كانتصار عظيم، من يتخطى اسمى في أشد رغبتي لسماعه وفجأة ينادي يا حياتي.
أياما كثيرة أشعر فيها أني وأنتَ نبحث عن بعضنا داخل المتاهات، نتقاطع دون أن ندرك الاتجاهات، نحرك أقدامنا خطوات نحو حياة جديدة، نتمنى أن تجمعنا صدفة تسبق رغبتنا في الوصول، آه ..
لكننا ضعنا في سرداب طويل، لا نعثر علينا لكن ثمة رائحة قلبينا، رائحة شديدة تحاصر نبضينا، جدا أحبك وأعلم أنك تتساءل كيف لازلت أعشقها؟
يمتد وجعي عبر هذا الشعور الصدئ الذي يزأر داخلي إلى براءة الطفلة التي امتطت وميض الحب وراحت تركض خلف سراب باهت، تخوضني الأيام في غمارها وتغرقني في خيال يتجلى في وجه ترتديه وتشيح به عني، في محطات الوحدة التي لم تعد تسع غربة روحي.. يمر العمر كأنه لا يعنيني ويجبلني الوقت إلى التورط في مجازه الضخم، تتمادى بي هشاشة انتظاره إلى آخر ساعات الليل دون أن يغامر ويأتي، كم أني امرأة متمرسة الرؤى تبصره خلف شاشة صغيرة لا تتعدى طرق الأصابع وتستعيد حبه داخل نصوص تكتبها في منتصف شوق محموم وترتب عناقا طويلا بين الفواصل رغم أن الفواصل متعبة لا تكف عن العبث بالندوب العارية ..
تنسلخ بفكرها مع كل مبرر متاح، وتعلق اسمه داخل تنهيدة وكأنها ستخرجه وجعا مع كل شهقة، تكيد له بعزاء عادي دون أن تدفع أقساط الغياب، وتضمر ملامح الألفة القديمة، في جوفه رسالة معتقة بالذكرى تنبعث منها رائحة الصور والقُبل واللحظات العظيمة، لازلت هناك أتفقد قلبي الذي أضعته في منفى الديار البعيدة هناك حيث البقعة الثملة أو بين شعاب الكرز البربري، حيث تبادلنا أطراف الشوق ولحظات الحب وخطنا ذكرى جميلة يرتديها القلب الحزين.
أنبش عن كلمات فادحة انتزعت حلاوة العشرة منا، أسعى بكل جهد للهرب من مأساة البعد والتفكير، لكن دون جدوى، فذاكرتي مستهلكة وصارمة تأبى التراجع، لازلت مصرة على العودة إلى ذات المكان هناك حيث رياض المحبة، رغم دناءة المشاهد وخذلان المواقف والأعذار الكادحة المتوارية خلف سخافة الأسباب بالكهوف وبرودة الأحلام.
إلا أنني أتمخض من الشوق رغيفا مسجى بغبار الريبة، أنازع جموح الرغبة وأكتنف المسافات على هامش الدروب الغابرة لأحقق بمشقة رحلة البحث عن ظلك بين ثنايا روحي في سبيل اللقاء ..
ربما نحتاج أحيانًا لأحلام صغيرة ورحلات قصيرة دون أن نفارق مكاننا الذي نعيش فيه لنسافر إلى بقعة ثملة، بلا أمتعة ندسها في حقيبة الروح ونحملها، وحيث لا نبحث فينا عن تذكرة سفر، قفزة عالية، وأجنحة ملائكية، وتحليق إلى سماء يتوسطها بصيص هلال، لا نجم حوله ينافسه، ولا سحب تحجب روعته، حيث نبني قصورا وتسكنها أرواحنا الحائرة بحثا عن رائحة السعادة وبصيص الأمل..
ترى هل تقام في محاريب الروح صلوات الإياب من جديد؟

بقلم: هند بومديان

Top