المرأة بين عدالتين: العدالة التقليدية والعدالة الحداثية

مسألة مراجعة قانون المرأة المطروح هذه الأيام للنقاش يمكن إدراجه إما في نطاق مطلب “الحق في الاختلاف الثقافي”، أو في نطاق حقوق الإنسان. وفي الحقيقة النطاقان يتبادلان المواقع. في التعدد الثقافي يطرح مطلب “الحق في المساواة” بين المرأة والرجل، لكن الذي يطرح هذا المطلب ليست الثقافة التقليدية التي تكون عادة مهضومة الحقوق في الدول الغربية متعددة الثقافات، بل الذي يرفعه هي الثقافة الحداثية، ما يدل على أنها هي الثقافة المظلومة في البلدان الشبيهة ببلدنا التي تهيمن فيها الثقافة التقليدية بخاصة على مستوى الشريعة، أي على مستوى التشريع للأسرة.

لا ريب في أن “التعدد الثقافي” علامة على قوة المجتمع وغناه، لكن أن تتحول الثقافة التقليدية إلى عائق أمام تطور المجتمع وحاجز أمام مراجعة نفسه المرة تلو المرة بذريعة عدم المس بالنص، ستكون كارثة تاريخية.

الأمر إذن يتعلق بقطبين يتصارعان حول من يمثل هوية المغرب الحية بصدد المرأة، قطب الثقافة التقليدية التي تسعى إلى إظهار عنادها اللاعقلاني إزاء ثقافة حقوق الإنسان، مُظهرة اللامساواة هي أعلى درجات المساواة، والظلم هو أعلى درجات الحق! وتعمل كل ما في وسعها للتضييق على الرؤية الحداثية للإنسان، مستهجنة كل دعوة للحرية والمساواة والعقلانية بدعوى أنها قيم مستوردة أو معادية للدين الإسلامي. والقطب الثاني هو قطب الحداثة الثقافية التي تنطلق من مبدأ المساواة الجوهرية بين الرجل والمرأة، دون أن تُخفي الاختلاف الوظيفي بينهما، للمطالبة بالمساواة في الحقوق بين النِّدّين الأنثى والذكر.

هل على الدولة أن تكون منحازة لأحد الطرفين أم عليها أن تكون محايدة؟ أعتقد أن من الحكمة أن تكون الدولة محايدة، لكن الحياد الإيجابي، وهو الحياد المنصف للمرأة المتسم بالجرأة الأخلاقية لطي صفحة المظالم التي لحقت وتلحق بالمرأة إلى يومنا هذا. ما يعني أن معالجة هذا الإشكال يتطلب قدرا كبيرا من الجرأة والإبداع والابتعاد كل ما من شأنه أن يهدد الدولة والمجتمع بخطر الانغلاق والصراع بين المفتعل بين أهل التقليد وأهل الحداثة.

نفهم من هذا أن مسألة المرأة في مجتمعنا تتسم بطابع إشكالي تتصارع فيه الحداثة كثقافة للحرية والعقلانية، والثقافة التقليدية التي ترفض امتثال أفرادها لقيم المساواة في الحرية والتفكير، وتعارض كل رؤية حداثية للإنسان. فكيف نقرب أو بالأحرى نجمع بين هاتين الرؤيتين بدون عواقب كبرى.

الاعتراف بالحق في المساواة

أول بند في عملية التقريب بين الرؤيتين الحداثية والتراثية هو الاعتراف بالحق في مساواة المرأة للرجل، وأن يتم هذا الاعتراف عبر المشاورات والآليات الديمقراطية التي لا تستثني الأخذ بعين الاعتبار النصوص المقدسة. ومن شأن هذا الاعتراف في نظرنا أن يلعب دورا إيجابيا في نزع فتيل التشدد والتفرقة بين الرجل والمرأة لدى التراثيين، والتخفيف من حدة رؤية النزعات النسوية للمرأة. لذلك، نرى من الأفضل أن تتحول المطالبة “بالحق في المساواة” إلى مطالبة سياسية، حتى يمكن معالجتها عبر النقاش الديمقراطي رغبة في الوصول إلى تراضٍ يأخذ بعين الاعتبار كل وجهات النظر، وبخاصة الطرف ما قبل الحداثي الذي يدافع عن “مساواة المرأة للرجل” من زاوية اللامساواة.

ينبغي التزام الجميع بمساطر الحوار الحر والعقلاني وبحدود الرؤية الحداثية والرؤية التقليدية للمرأة، كيلا تتحول المطالبة السياسية بحق المساواة إلى أداة تقويضٍ للإجماع العقلاني على تكافؤ الجنسين.

بالفعل، لا ينكر أصحاب النصوص التكافؤ بين الجنسين، وإنما يتصورون هذا التكافؤ بكيفية مختلفة عن أصحاب المبادئ التنويرية. من هنا سيكون على التشاور العقلاني والديمقراطي أن يسعى إلى الوصول إلى “مجال مشترك” يتم فيه التقريب بين المساويتين التقليدية والحداثية. ونعتقد أن غياب البحث عن تلك الغاية المشتركة، أي عن نقطة التقاء المساواة التقليدية بالمساواة الحداثية، قد تهدد بالسقوط في فوضى التصورات والمعاني التي يستباح فيها كل شيء باسم كل شيء، أو يُرفض فيه كل شيء باسم كل شيء.

الهدف مما قلناه هو تلافي استفحال الأزمة بين “الحداثة السياسية” و”التقليد اللاسياسي”. الرهان من هذا الصراع حول المرأة هو الإنسان. فأصحاب “ثقافة الحداثة والتنوير” يدافعون عن رؤية جديدة للإنسان مبنية على الحرية والمساواة والعقلانية، رؤية تحوله من إنسان إلى مواطن ينتمي إلى مجتمع سياسي هو الدولة، في مقابل التصور التقليدي للإنسان بوصفه مؤمناً داخل الإسلام. إذن بينما نَظَرت الحداثة إلى الإنسان، “حيوانا سياسيا”، أي باعتباره مواطنا ينتمي إلى مجتمع سياسي (الدولة) قائم على التفاوض للوصول إلى تراض وحلول وسطى، فإن الإسلام التقليدي ينظر إلى الإنسان بوصفه عبداً مؤمناً.

وفي رأينا ليس من واجب الدولة الحداثية أن تكون راعية اندماج الكل في بوتقة واحدة بين مواطني الدولة، بل عليها أن تراعي التعدد والاختلاف بين رؤى العالم لدى المواطنين سواء كانوا مؤمنين أم لم يكونوا. فقد أصبح التعدد الثقافي واقعاً لا يرتفع.

“المساواة في الحرية والعقل” ضامن “التعدد السياسي والثقافي”

لا شك أن رفع أهل النص لمطلب “الإبقاء على ما كان كما كان” كان موجها أساساً ضد “ثقافة الحداثة والتنوير”. مع ذلك نعتقد أن “المساواة في الحرية والعقل” هو الضامن الأكيد لكرامة المرأة والرجل معاً، وبالتالي لا مناص من الانخراط في مجرى الحداثة من موقع التحدي والتغيير. في حين البقاء في حيز الثقافة التراثية القائمة على أسس ثيولوجية وتقاليد موروثة غير قابلة للمناقشة والتغيير بناءً على التمييز بين الناس والجماعات، يقود إلى التقوقع ورفض التحدي مع الآخر. بهذه الجهة تكون “الهوية الوطنية” تتكون على الأقل من هويتين، هوية تقليدية وهوية حداثية، علما بأن كل واحدة من الهويتين يمكن أن تحتوي على أكثر من هوية واحدة، وأن الهوية التقليدية يجب أن تكون داخل “الهوية المشتركة” لا خارجها.

إذا كان من قواعد التفاوض الديمقراطي ألا تُفرض المساواة الحداثية بين الجنسين على من لا يؤمن بها قسراً بحجة الوصول إلى مُواطِنَة متساوية مواطن، فهل يعني هذا استثناء المرأة من المساواة أمام القانون، بحجة وجوب الخضوع للشريعة التي لها الحق في المحافظة على قيمها واستمرارها؟

نعترف بأن المطالبة بالمساواة ذات طبيعة إشكالية. ولذلك يحتار المرء هل من الصواب إعطاء الأسبقية للحقوق الشرعية على الحقوق الإنسانية ولو أدى الأمر إلى القضاء على قيمة المساواة؟ أم من الحكمة الفعالة والمنصفة إعطاء الأسبقية للحق الإنساني على الحق الشرعي وإن كان فيه شيء من الإكراه لمن لا يؤمن بالمساواة في الإنسانية وإرغامه على الانصهار في الثقافة المساواتية؟

من أجل تلافي هذا الإحراج نرى من الواجب الاعتراف بأكثر من هوية محلية داخل الهوية الوطنية العامة، ونعني بذلك الإقرار بوجود شريعتين، شريعة إنسانية مساواتية وشريعة إلهية ترفع شعار المساواة بغطاء اللامساواة، داخل الدولة الواحدة. وفي حالة الاختلاف بين الشريعتين تُعطى الأولوية للمساواة الحداثية لتحقيق مساواة “منصفة” بين المرأة والرجل. لكن الإنصاف لا يقتضي حرمان الشريعة الدينية من حيزها الخاص داخل المكان العام للمساواة الحداثية. الأمر إذن يتعلق بمكانين متضايفين للحق لا يفترقان، على أن يكون المكان العام ضامنا للمساواة في الإنسانية بين المرأة والرجل، والمكان الخاص ضامنا للاّمساواة بينهما في حدود معلومة.

ولا شك أن المس بالحقوق الأساسية للمرأة وإرغامها على القبول بالحقوق الشرعية هو مس بمبدإ “المساواة بين المواطنين” الأمر الذي يؤدي إلى تحول الحق إلى ظلم، والمساواة إلى لا مساواة، أي انتهاك مبدإ المعاملة بالمِثل بين المرأة والرجل. وهذا ما لا تقبله الشريعة الدينية في جوهرها.

نعم لا يمكن إنكار الاختلاف البيولوجي والاجتماعي بين الرجل والمرأة، لكن عندما لا يكون الاختلاف الشرعي “مقبولا عقليا”، أي قابلا للنقاش والنظر في عواقبه المختلفة على الفرد والمجتمع والجماعة، فلا ينبغي التسليم به مطلقا بدون قيد أو شرط. مثلا قانون تجريم الإجهاض أو قانون الزواج قبل 18 سنة مثلا لا يقبله العقل إلا إذا ظهر أن فوائده “معقولة” بالقياس إلى “العواقب” التي تترتب عنه.

وبالتالي يمكن للتشاور الديمقراطي أن يسفر عن إمكانية تجاوز مفهوم “المساواة المطلقة” نحو مساواة متعددة المعاني بالنسبة لمن ارتأى ضرورة المحافظة على نصوص الشريعة كما هي بالرغم من التغير الهائل الذي حصل في سوق الشغل وفي وسائل الإنتاج وقواه، حيث أصبحت المرأة قوة أساسية في إنتاج الخيرات المادية والمعنوية، وأحيانا صارت هي التي تعمل وتعيل الرجل وأبناءه منها.

الاعتراف المتبادل والمتطور بين الثقافة الدينية والثقافة الحديثة، والمعرفة العقلية بحيثيات كل منهما، هي الأرضية الصالحة لحل تعدد مفاهيم المساواة بين الثقافتين. إن النقاش حول هذه المسألة هو فرصة للثقافة غير المؤمنة بالمساواة من النوع التنويري كي تجدد نفسها وتثبت ذاتها وتبرهن على حضورها في الفضاء العمومي على ضوء الأخذ بعين الاعتبار الحساسية الحقوقية للزمان الحالي.

وفي رأينا علينا أن نتجنب رفع شعار “الحق في الاختلاف” أي “الحق في اللامساواة” بديلا “للحق في المساواة”. إذ لا معنى للقول بأن اللامساواة بين الأنثى والذكر هي الحقيقة الجوهرية للإنسان، بل الحقيقة الجوهرية هي المساواة في الإنسانية بينهما. ومن ثَم ليس من حقنا أن نقول اليوم إن للرجل فضلا على المرأة، فهما متكافئان. لذلك، المطلوب الآن ليس الرجوع إلى الخلف والسلف، بل توسيع مكتسبات الحداثة والتنوير بالاستفادة من مدخرات ثقافتنا القابلة للتحديث.

وفي المقابل، كما سبق منا القول، على ثقافتنا التراثية أن تجدد نفسها بنفسها في ظل التغيير المستمر الجاري في عالم اليوم لكي تضمن حقها في البقاء والحضور. ولا يمكن أن يتحقق هذا التجديد الذاتي، إلا بتوفير الحرية الفكرية لأهل الحداثة بتنسيق مع أهل النص كي يقرروا ما يختارونه ملائما لمصالح الرجل والمرأة التي ستبقى مفتاحاً من مفاتح الحداثة، وأداة لتجاوز البعد الواحد لثقافتنا المشتركة.

< بقلم: د. محمد المصباحي

Top