معركة الهري.. حين خرجت قبائل زيان بقيادة موحى وحمو الزياني في مواجهة تسرب الجيوش الأجنبية لمنطقة الأطلس المتوسط

 جسدت معركة الهري إحدى الصور الرائعة للكفاح الوطني الذي خاضه المغاربة في مواجهة حملات تسرب الجيوش الأجنبية الغازية لبسط سيطرتها على منطقة الأطلس المتوسط سنة 1914. فقد توجهت أنظار الإدارة الاستعمارية بالضبط صوب مدينة خنيفرة لتطويقها وكسر شوكة مقاومتها، في أفق فتح الطريق بين الشمال والجنوب عبر هذه القلعة الصامدة، التي شكلت إحدى المناطق التي اتخذها المقاومون ساحة للنزال والمواجهة مع المستعمر الأجنبي. لقد كانت أرض الهري من أكبر المقابر العارية لقوات الاحتلال، وجسدت نقطة سوداء في وجود الاستعمار الفرنسي شمال افريقيا، في حين خلفت بصمات مشرقة في تاريخ المغرب المعاصر.

في غمرة أجواء الحماس الوطني والتعبئة المستمرة واليقظة الموصولة، تخلد أسرة المقاومة وجيش التحرير وساكنة إقليم خنيفـرة يومه الأربعاء، الذكرى التاسعة بعد المائــة لمعركة الهري، التي جسدت أروع صور الكفاح الوطني الذي خاضه المغاربة في مواجهة حملات تسرب الجيوش الأجنبية الغازية لبسط سيطرتها على منطقة الأطلس المتوسط سنة 1914. هذه المعركـة التي شكلت معلمة مضيئة في تاريخ الكفاح الوطني، برهنت بجلاء عن مدى صمود الشعب المغربي في مواجهة الوجود الأجنبي والتسلط الاستعماري على إثر فرض عقد الحماية في 30 مارس 1912.

فبعدما تم احتلال ما كان يسمى حسب “ليوطي” بـ “المغرب النافع”، السهول والهضاب والمدن الرئيسية، وبعدما تمكن الجيش الفرنسي من ربط المغرب الشرقي بالجناح الغربي من الوطن عبر تازة في ماي 1914، توجهت أنظار الإدارة الاستعمارية نحو منطقة الأطلس المتوسط، وبالضبط صوب مدينة خنيفرة لتطويقها وكسر شوكة مقاومتها، في أفق فتح الطريق بين الشمال والجنوب عبر هذه القلعة الصامدة، التي شكلت إحدى المناطق التي اتخذها المقاومون ساحة للنزال والمواجهة مع المستعمر الأجنبي.

وقد تأكدت هذه الخطورة من خلال التصريح الذي أدلى به المقيم العام “ليوطي” حيث قال يوم 2 ماي 1914: “إن بلاد زيان تصلح كسند لكل العصاة بالمغرب الأوسط، وإن هذه المجموعة الهامة في منطقة احتلالنا وعلاقتها المستمرة مع القبائل الخاضعة، يشكل خطرا فعليا على وجودنا. فالعصاة المتمردون والقراصنة مطمئنون لوجود ملجإ وعتاد وموارد وقربها من الجيش ومناطق الاحتلال جعل منها تهديدا دائما لمواقعنا، فكان من الواجب أن يكون هدف سياستنا، هو إبعاد كل الزيانيين بالضفة اليمنى لأم الريع”.

في حمأة هذه الظروف العصيبة، انطلقت أولى العمليات العسكرية، وأنيطت مهمة القيادة بالجنرال “هنريس” الذي اعتمد في سياسته على أسلوب الإغراء، حيث حاول التقرب من القائد المجاهد موحى وحمو الزياني، الذي كان يرد بالرفض والتعنت والتصعيد في مقاومته. حينئذ، تبين للفرنسيين أن مسألة زيان لا يمكن الحسم فيها إلا عن طريق استخدام القوة. وبالفعل، فقد بدأت سلسلة من الهجومات على المنطقة، وفوض “ليوطي” للجنرال “هنريس” كامل الصلاحية واختيار الوقت المناسب لتنفيذ هجوماته وعملياته العسكرية.

وتمكنت القوات الاستعمارية من احتلال مدينة خنيفرة، بعد مواجهات عنيفة. إلا أن التفوق العسكري الذي أظهرته لم يسهل عليها إخضاع موحى وحمو الزياني الذي عمد إلى تغيير استراتيجية مقاومته، وإخلاء المدينة المحتلة تفاديا للاستسلام والرضوخ للإرادة الاستعمارية، وسعيا للاعتصام بالجبال المحيطة بخنيفرة، وبالضبط بقرية الهري قرب نهر اشبوكة، وفي انتظار أن تتغير الظروف، خاصة وأن أجواء الحرب العالمية الأولى أصبحت تخيم على أوروبا.

في خضم هذه الملابسات، تلقى المقيم العام “ليوطي” برقية من الحكومة الفرنسية جاء فيها: “ينبغي في حالة الحرب أن تبذلوا جهودكم للاحتفاظ في المغرب بعدد من القوات لا يمكن الاستغناء عنها ، إن مصير المغرب يتقرر في “اللورين”. وينبغي أن يقتصر احتلال المغرب على موانئ الشواطئ الرئيسية إذا كان ممكنا على خط المواصلات خنيفرة، مكناس، فاس، وجدة”.

وما أن ذاع خبر وصول موحى وحمو الزياني إلى قرية الهري حتى سارعت القيادة الاستعمارية إلى تدبير خطة الهجوم المباغت على المجاهدين، غير آبهة بالأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء. وفي هذا الوقت، قرر الكولونيل” لافيردير” القيام بهجوم على معسكر المجاهدين، وكان ذلك ليلة 13 نونبر 1914.

لقد تم الإعداد لهذا الهجوم بكل الوسائل الحربية المتطورة، وبحشد عدد كبير من الجنود. وفي هذا السياق، يشير الأستاذ محمد المعزوزي إلى قيام المحتل الأجنبي بتنفيذ خطته يوم 12 نونبر 1914 حيث تحرك بأربع فرق تضم 1300 جنديا، معززة بالمدفعية، وتوجه إلى معسكر الهري حيث قام بهجوم مباغث على الدواوير ومناطق المجاهدين.

لقد كان الهجوم على معسكر القائد موحى وحمو الزياني عنيفا، حيث بدأ في الساعة الثالثة صباحا، وتم تطويق المعسكر من أربع جهات في آن واحد، ليبدأ القصف العنيف، حيث قذفت الخيام المنتصبة التي تضم الأبرياء، وقام الجنود بأمر من “لافيردير” بمهاجمة القبائل المحيطة بالقرية، فيما استغل البعض الآخر الفرصة للاستيلاء على قطعان من الأغنام والأبقار ولاختطاف النساء متوهما بذلك الانتصار على المجاهدين الأشاوس.

وانتشرت الآلية العسكرية للقوات الاستعمارية، وقامت باكتساح الجبل لتمشيطه من المقاومة، وبذلك تحولت منطقة الهري إلى جحيم من النيران، وسمعت أصوات الانفجارات في كل المناطق المجاورة، وظن قائد الحملة العسكرية المنظمة على الهري أن النصر صار حليفه، وأنه وضع حدا لمقاومة موحى وحمو الزياني والمجاهدين من قبائل زيان والقبائل المجاورة.

غير أنه أصيب بخيبة أمل حينما فوجئ برد فعل عنيف من قبل المجاهدين، ليدرك أنه ألقى بنفسه وبقوته في مجزرة رهيبة وحلقة مغلقة لا سبيل للخروج منها.

وبالفعل، فقد كان رد المقاومة عنيفا وأشد بأسا حيث زاد عدد المقاومين بعد انضمام سائر القبائل الزيانية والمجـاورة لها وهـي قبائــل اشقيـرن، آيت اسحـاق، تسكـارت، أيت. احند، ايت يحيى، آيت نوح، آيت بومـزوغ، آيت خويا، آيت شارط وآيت بويشي، وتم استخدام كل أساليب القتال من بنادق وخناجر وفؤوس، وقد تحمست كل هذه القبائل لمواجهة المحتل للثأر لنفسها ولزعيم المقاومة موحى وحمو الزياني، وأبانت عن روح قتالية عالية. ومما زاد من دهشة القيادة الاستعمارية، الحضور التلقائي والمكثف والسريع للقبائل رغم المسافات التي تفصل بينها.

لقد كانت أرض الهري من أكبر المقابر العارية لقوات الاحتلال، حيث قدرت خسائر القوات الاستعمارية ب: 33 قتيلا من الضباط، و580 قتيلا من الجنود، و176 جريحا، وغنم المقاومون 3 مدافع كبيرة، و10 مدافع رشاشة، وعددا كبيرا من البنادق، كما قام موحى وحمو الزياني في16 نونبر 1914، أي بعد مرور ثلاثة أيام على معركة الهري بتصديه بفرقة مكونة من 3000 مجاهد لزحف العقيد “دوكليسيس” الذي كان قادما من تادلة لنجدة وإغاثة ما تبقى من الجنود المقيمين بخنيفرة، فكبده المجاهدون خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.

لقد جسدت هزيمة الهري نقطة سوداء في وجود الاستعمار الفرنسي شمال افريقيا، في حين خلفت بصمات مشرقة في تاريخ المغرب المعاصر. وفي هذا الصدد، أورد الجنرال “كيوم”، أحد الضباط الفرنسيين الذين شاركوا في الحملة على الأطلس المتوسط في مؤلفه “البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المتوسط 1912 – 1933″، أن القوات الفرنسية “لم تمن قط في شمال إفريقيا بمثل هذه الهزيمة المفجعة”.

وإن أسرة المقاومة وجيش التحرير وهي تستحضر هذه الملحمة التاريخية الغنية بالدروس والعبر الطافحة بالدلالات والمعاني والقيم، لتجدد موقفها الثابت من قضية وحدتنا الترابية بالتأكيد على مغربية الصحراء، والإعلان عن وقوفها ضد مناورات خصوم وحدتنا الترابية ومخططات المتربصين بسيادة المغرب على كامل ترابه المقدس الذي لا تنازل ولا مساومة في شبر منه. وستظل بلادنا متمسكة بروابط الإخاء والتعاون وحسن الجوار، إيمانا منها بضرورة إيجاد حل سلمي واقعي ومتفاوض عليه لإنهاء النزاع المفتعل حول أقاليمنا الجنوبية.

وفي هذا الإطار، تندرج مبادرة منح حكم ذاتي موسع لأقاليمنا الصحراوية في ظل السيادة المغربية.

كما تستحضر بالمناسبة مضامين ودلالات الخطاب التاريخي لجلالة الملك محمد السادس يوم 20 غشت 2022 بمناسبة الذِّكرى 69 لملحمة ثورة الملك والشعب المباركة، والذي حمل إشارات قوية ورسائل بليغة في مسار قضية وحدتنا الترابية، حيث قال جلالته:

“لقد تمكنا خلال السَّنوات الأخيرة، من تحقيق إنجازات كبيرة، على الصعيدين الإقليمي والدولي، لصالح الموقف العادل والشرعي للمملكة، بخصوص مغربية الصحراء.

وهكذا، عبرت العدد من الدُّول الوازنة عن دعمها، وتقديرها الإيجابي لمبادرة الحكم الذَّاتي، في احترام لسيادة المغرب الكاملة على أراضيه، كإطار وحيد لحل هذا النزاع الإقليمي المفتعل.

فقد شكل الموقف الثابت للولايات المتحدة الأمريكية حافزا حقيقيا، لا يتغير بتغير الإدارات، ولا يتأثر بالظرفيات. كما نثمن الموقف الواضح والمسؤول لجارتنا إسبانيا، التي تعرف جيدا أصل هذا النزاع وحقيقته.

وقد أسس هذا الموقف الإيجابي، لمرحلة جديدة من الشراكة المغربية الإسبانية، لا تتأثر بالظروف الإقليمية، ولا بالتطورات السّياسية الدّاخلية.

وإن الموقف البناء من مبادرة الحكم الذاتي، لمجموعة من الدول الأوروبية، منها ألمانيا وهولندا والبرتغال وصربيا وهنغاريا وقبرص ورومانيا، سيساهم في فتح صفحة جديدة في علاقات الثقة، وتعزيز الشراكة النوعية، مع هذه البلدان الصديقة.

وبموازاة مع هذا الدعم، قامت حوالي ثلاثين دولة، بفتح قنصليات في الأقاليم الجنوبية، تجسيدا لدعمهَا الصريح، للوحدة الترابية للمملكة، ولمغربية الصحراء.

وحسم جلالته مع المواقف غير الواضحة والمتذبذبة من قضية وحدتنا الترابية، بقوله:

“وأمام هذه التطورات الإيجابية، التي تهم دولا من مختلف القارات، أوجه رسالة واضحة للجميع، إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات.

لذا، ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضحَ مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل”.

واحتفاء بهذه المناسبة التاريخية الغراء بما يليق بها من مظاهر الاعتزاز والإكبار، وإبرازا لدلالاتها التاريخية وإشاعة لقيمها النبيلة في أوساط الشباب والناشئة والأجيال الجديدة، ستنظم المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، يومه الأربعاء 2023 بالجماعة القروية لهري بإقليم خنيفرة مهرجانا خطابيا ستلقى خلاله كلمات وعروض وشهادات، تستحضر الدلالات الرمزية والأبعاد التاريخية لهذه المعركة المفصلية في مسيرة الكفاح الوطني الطافحة بروائع النضالات من أجل الحرية والاستقلال والوحدة الوطنية.

كما ستجرى مراسيم تكريم صفوة من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وتوزيع إسعافات اجتماعية على عدد من أفراد هذه الأسرة المجاهدة الجديرة بموصول الرعاية وشامل العناية.

ومعلوم أنه ستقام في سائر جهات وعمالات وأقاليم المملكة برامج أنشطة وفعاليات بالمناسبة ، تشرف عليها النيابات الجهوية والإقليمية والمكاتب المحلية وفضاءات الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير، من ندوات ومحاضرات، بما فيها عرض إصدارات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وكذا تنظيم زيارات لفائدة الفئات العمرية على اختلافها، لفضاءات الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير البالغ تعدادها 104 وحدة-فضاء، مفتوحة عبر ربوع التراب الوطني.

إعداد للنشر: سعيد ايت اومزيد

Top