العوالم السردية في (ظل طيف) لفاطمة الشيري

تواصل الكاتبة فاطمة الشيري مشروعها السردي الطموح بمجموعة قصصية قصيرة جدا عنونتها بظل طيف، دار النشر سليكي أخوين طنجة، الطبعة الأولى أبريل 2019.
والكتاب من الحجم المتوسط، ويستوي عوده في إخراج فني جميل، يقع في مائة وخمسة عشر صفحة. وما يشد انتباه المتلقي هي صورة الغلاف التي توحي بغيوم ملبدة تغطي رصيف سكة حديدية، وهو رصيف ممتد قد يتخيله الناظر موغلا في المكان والزمان. وهذا ينبئ بعوالم سردية طافحة بدلالات التغول في ملكوت السرد أو السياحة في سراديب الرصيف سيان. فظل طيف العنوان البارز بخط كاليغرافي أبيض، يتناغم مع الطيف الذي قد ينبلج في منعطف الطريق على حين غفلة، وقد يختفي فجأة ومن غير سابق إنذار. ومن هنا فإن القراءات المتعددة والممتدة في الزمان والمكان، قد تزود القارئ المفترض بإرهاصات الدلالة ومستوياتها، خاصة إذا استعان بالتقديم الذي خص به الناقد مسلك ميمون هذا السجل السردي الوارف، وهو تقديم غطى سبع صفحات (من الصفحة 3 إلى الصفحة 9).
إن القارئ المفترض وهو يتأهب لأن يدلف إلى هذه العوالم الفيحاء لابد من أن يتزود بذخيرة فكرية، وسجل موسوعي، وتجارب في القراءة والتحليل. أما القارئ الذي يتعالى على هذه العوالم السردية فقد يخرج منها خاوي الوفاض، لأن الدلالة لا تنحصر في العبارة، بل تتعداها لتشمل الإشارة والإيماء. واللبيب بالإشارة يفهم.
وقد شيدت الكاتبة فاطمة الشيري عوالمها السردية البهية في أضمومتها الوارفة (تجرعت كأسي) وعلى منوال هذه الأضمومة، وطدت استيهاماتها مع القص الوامض في (ظل طيف) باحثة عن بريق أمل في الشعر، وهي تعلم علم اليقين آصرة القرابة التي تجمع بين الشعر الحر والقص الوامض المكتنز دلالة، وإيحاء، وإيقاعا، على نغمات أوجاع الذات، وهرطقات الأزمنة الكئيبة المزعجة للأحلام والأشواق الموؤودة.
وأن تنبري الذات الساردة لاستفزاز هذه الأزمنة، ونفض الغبار عن أماكن مهجورة لكنها منغرزة في الوجدان؛ يعني ذلك أن الذات الساردة تجرد من كينونتها شخوصا من ورق، تحاورها بلغة تراثية غائصة في المتخيل، والذاكرة الجمعية.
وأن يمتد السرد على صفحات ناهزت المائة؛ يعني ذلك أن الكاتبة تتمتع بكفايات هائلة في السرد، مستغلة مهاراتها الفائقة في تكييف القص الوامض مع لغتها السردية التي تنهل من معجم فياض، يغتني باللغة التراثية التي تنفتح على تخوم الأزمنة المتداخلة والمتشابكة، وهي تشيد عوالم سردية تتنازعها ثنائية الرغبة والجموح، وكلما حاولت القبض على اللحظات الجميلة إلا وبرزت قوى فاعلة معارضة تنعش اللحظات الكئيبة والحزينة.
ومن القصص القصيرة جدا الدالة على هذا التنازع، وهذا السجال السردي المثمر الحاصل بين ثنائية الرغبة والجموح، نذكر: مقارنة، حياة، إعلام، اندثار. فالقص الوامض يلهم الذات الساردة أن تتأمل قطار الحياة، وتقارن في الوقت نفسه، بين قطرة السنة التي تصطدم بالزجاج، وبين قطرة الدمع وهي سقط على الخد؛ إنها تقارن بين زمنين ملهمين للقص لكن أحدهما مرغوب فيه، والآخر تنفر منه.
وتظل الذات الساردة تشكو بثها وحزنها وما ألم بها من معاناة إلى روح الله، فهي تهب لها من حيث لا تدري شيئا ما، فتظل تراقص شمعتها، وفي تمايلها تقاوم الظلام، إنها في حالة اتصال بالشمعة الأمل، وفي الوقت ذاته، تنفصل عن هذه اللحظة الجميلة بمقاومتها لجبروت الظلام، وانسداد الأفق أو المصير؛ وهو ما أومأ إليه السارد بالتخلص من أكل نتن يتجلى في لحوم افترستها النسور، وللتخلص أو الانفصال عن هذه اللحظات البئيسة تستأسد الذات الساردة، وتفتح عرين الأسد، أو لحظة الرغبة بعد أن تمردت على الواقع، واستشرفت لحظات مشرقة وبهية في السرد والحكي.
وفي القصة المعنونة بتقوس (ص 60) ينسل السرد المعتق من بين الأثلام أو الشقوق، وتنتعش لحظات الرغبة بدفء الكتابة أو الغيث الذي يبعثر أوراق السباحة والسياحة في ملكوت الحكي.
وأن تسعى الذات الساردة جاهدة لمغادرة قانون الغاب، فلأنها سئمت أزمنة الوجع والكآبة وتود اقتفاء أثر النورس العاجز عن التحليق، وأنى له أن يحلق عاليا وقد اغتسل بماء البحر البارد.
وفي القصة المعنونة بـ “توال” (ص 79) يشحذ السارد بنات الأفكار، ويحولها إلى سرد عميق يحتفي بحصاد الفصول حيث تتقاطر الحروف، واللغة الشاعرة الطافحة بالخيال المعقلن الذي يتحول في لحظة ما إلى خيال جموح، وهنا لا تقبل الذات الساردة إلا بالحكي العميق بديلا، فتتنازعها الأفعال السردية الدالة على الحركة (يشحذ، تنصهر، تتقاطر…)؛ هذه الأفعال الملهمة والملهبة للحكي الوامض سرعان ما يخفت ينعانها فتصفر، ويجبن الخريف، فتقطف. وكأن بالسرد هنا يحول رحلة العمر اليانعة إلى زمن كئيب يرخي بكلكله على الذات الساردة، من غير أن تستسلم لحصاد الفصول.
أما في قصة “هدف” (ص 75) فتتوغل هذه الذات في السرد المكتنز الذي يسهم في التنمية الذاتية عبر حصة الشرح، فإذا كان السرد في الأزمنة الرديئة يقسم الذات المكتوية بجمرة الكتابة إلى نصفين، فإنها مع ذلك لا تستسلم، وتظل تعيش زمنين متصارعين؛ أحدهما دال على الرغبة (التنمية الذاتية) والآخر دال على النفور؛ أي الترحم على ذلك الإنسان الذي وهبته الذات الساردة إلى السماء.
إن السرد العميق في قصة “تكالب” (ص 80) يجبر الذات الساردة على أن تتعسر في هضم الواقع أو بالأحرى فهمه فهما صحيحا، وهي لا تقوى على ذلك، والأفعال السردية التي تعوق هذا الفهم يلخصها السارد في اجترار الرصيف.
وعلى إيقاع التحدي والصمود يستوي عود القصة القصيرة جدا “dnd” (ص 85). فالسرد العميق هنا يشبه إلى حد بعيد التطريز وتعلمه أو بالأحرى استهواءه، لكن سرعان ما ينبري الزمن الكئيب فيحول صراح البياض إلى الهجين، وهي ميزة هذا العالم الأبكم.
لقد تفتقت قريحة القاصة فاطمة الشيري عن مساحات نصية قصيرة جدا. محبوكة بعناية فائقة، وسعت من أفق انتظار القارئ الذي سيجد نفسه يبحث عن دلالات المزج بين الأفعال السردية الدالة على الحركة والأخرى الدالة على السكون والجمود. وهنا يمكنه الاستعانة بالتجارب الخاصة التي كونها عن القص الوامض، والتفاعل بأريحية مع الذائقة السردية المندغمة إلى حد بعيد مع تنامي السرد وانسجامه. والذخيرة الفكرية للقارئ المفترض قد تسعفه لتمثل اللغة السردية الماتعة، فهي تنهل من التراث شعرا وحكيا، وتنفتح على العوالم السردية البهية التي تعانق روح العصر، إن في محاورتها للواقع، أو إبحارها في ملكوت السرد وامتدادات الحرية اللانهائية.

بقلم: الدكتور امحمد امحور

Top