لم يكن بمقدور المرابطين أن يؤسسوا إمبراطورية شاسعة الأطراف تمتد من إسبانيا شمالاً إلى تخوم إفريقيا جنوباً، لولا مدخراتهم من الذهب الذي يستقدم من إفريقيا. وقد سمح لهم ذلك بتمويل حملاتهم العسكرية، وفي نفس الوقت سمح لهم ببناء اقتصاد قوي ومتنوع. كان ذلك الاقتصاد يعتمد على عملة قوية هي الدينار الذهبي المرابطي. وقد بقيت العملة الذهبية في أوروبا إلى القرن السادس عشر تحمل اسم “المرابطية” Almaravide تلك العملة هي التي مولت الاكتشافات الجغرافية الكبرى، وهي التي مولت أهم المشاريع الاقتصادية في العالم آنذاك. كانت العملة “المرابطية” هي أهم عملة في العالم؛ كانت مثل الدولار اليوم.
وعلى امتداد القرون الوسطى، بقيت أهم مدخرات الذهب في العالم بيد الدول الإسلامية. لنأخذ فكرة عن ذلك، نورد شهادة العمري الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، حيث نقرأ عنده في “مسالك الأبصار”، أن سلطان مالي “مانسا موسى”، وكان معاصراً للعمري، حمل معه في رحلته إلى الحج، حوالي مائة جمل شحنت كلها بالذهب. كان ذلك الملك كثير الورع، لذا تصدق بجزء كبير من الذهب على الفقراء بالبلدان التي مر بها، أما الباقي فقدمه كهدايا للأعيان والأمراء، بحيث كان نصيب سلطان مكة وحده 250 كيلوغراماً من الذهب. أما في مصر، فيقول العمري إن “مانسا موسى” لم يترك أميراً ولا موظفاً في الدولة، دون أن يمنحه كميات من الذهب. وكان ما وزعه من المعدن النفيس سبباً في تراجع قيمة الذهب لسنوات بمصر.
في المغرب سار الموحدون على نهج المرابطين في الاعتماد على الذهب الذي يحمله التجار من إفريقيا. وكان الدينار الذهبي الموحدي هو أهم عملة في العالم آنداك، وعرف في أوروبا باسم La masmudina (نسبة إلى قبيلة مصمودة أصل الدولة الموحدية).
ساعدت مدخرات الذهب، الموحدين على القيام بمشاريع اجتماعية وعمرانية كبرى، مثل مستشفى مراكش العمومي وكان من أكبر مستشفيات العالم حسب عبد الواحد المراكشي، ومثل بناء مدينة الرباط. بالإضافة إلى مشاريع أخرى ضخمة بالمغرب والأندلس.
ساعدتهم مدخرات الذهب كذلك، على تمويل الحملات العسكرية المتكررة، وهو ما سمح لهم بتكوين إمبراطورية تمتد من إسبانيا إلى ليبيا.
وبجانب المرابطين والموحدين استفادت دولة مغربية أخرى من ذهب إفريقيا، هي الدولة السعدية؛ ذلك لأن الحملة العسكرية التي أرسلها أحمد المنصور إلى مالي (السودان الغربي)، سمحت بالعودة بكميات كبيرة من الذهب، لدرجة أن هذا السلطان تلقب بعد تلك الحملة بالمنصور الذهبي. غير أن الذهب الذي كان نعمة على الدولة السعدية في عهد المنصور الذهبي، سيصبح نقمة عليها في عهد أبنائه والذين سيقع الاقتتال بينهم. كانت أسباب ذلك الاقتتال متعددة، وكان من بينها الرغبة في السيطرة على الذهب الذي يأتي من تمبوكتو وبقية مدن السودان، وكلها تابعة للإمبراطورية المغربية.
بالنسبة لأوروبا، بقيت مدخراتها من الذهب محدودة على امتداد القرون الوسطى، لذا بقي اقتصادها ضعيفاً ولم تزدهر بها المدن، باستثناء المدن الإيطالية التي حصلت على الذهب بفضل الاتجار مع العالم الإسلامي، ولكن ذلك لم يكن كافياً لتأسيس دولة موحدة. أما أول دولة أوروبية أسست اقتصادها على الذهب فهي البرتغال. حدث ذلك منذ القرن الخامس عشر الميلادي، عندما وصلت عن طريق البحر إلى مصادر الذهب بإفريقيا، وألغت بذلك الوساطة المغربية.
بالنسبة لإسبانيا فهي لم تصل إلى موارد الذهب إلا بعد اكتشافها لأمريكا، وقد أسست منذ ذلك التاريخ دولة يقوم اقتصادها على الذهب، لكن ذلك أدى إلى تخلفها بدل تقدمها؛ لأنها اعتمدت كمنهج اقتصادي على ما يسمى ـ “المركانتيلية المعدنية”، والتي تقوم على تخزين الذهب وليس على تسخيره في تحريك عجلة الاقتصاد. بخلاف ذلك اعتمدت إنجلترا على “المركانتيلية التجارية”، والتي كانت تعني بيع المواد المصنعة لإسبانيا مقابل العملة الذهبية. هكذا كان الذهب القادم من أمريكا يدخل إلى إسبانيا بسهولة، ولكن يخرج منها بسهولة كذلك. بهذه الطريقة ساهم ذهب إسبانيا في تمويل الثورة الصناعية بإنجلترا، وفي تأسيس دولة “بريطانيا العظمى” التي غدت آنذاك أقوى إمبراطورية في العالم.
بقلم: عبد الواحد أكمير