اقترنت العولمة بشكل ما في ذهن الكثيرين بالهيمنة الغربية، وتحديدا الهيمنة الأميركية، التي باتت تفرض نمطا ثقافيا واحدا ومن خلفه نمطا موحدا سياسيا واقتصاديا وحضاريا حتى، ما يهدد الهويات الخاصة وتنوعها، وهو ما جعل من العولمة المفهوم المخيف للكثيرين ودفع عدة أفراد وجماعات للوقوف ضده والتصدي له.
في كتابه “السلطة بين التقليد والتحديث” يرى حميد المصباحي أن العولمة هي انتقال نمط من التفكير والسلوكات وأشكال التفاعل مع الناس والمحيط إلى أقصى درجات القبول العقلاني، بحيث أن هذه القيم والعادات غدت مقبولة في مجمل معتركات الحياة اليومية، مما يعني أنها صارت قيما كونية قبل أن تنتقل إلى العلاقات الدولية وتفرض نفسها كمتفق حوله في كل صيغ المعاملات الاقتصادية والسياسية بناء على مؤسسات عقلانية راعية لها، لأنها تمثل العدالة الكونية بعيدا عن كل أشكال الانحياز القديم، المؤسس على اللون أو العقيدة أو حتى السيطرة المالية لدول على أخرى.
ويتساءل: هل استطاع العالم اليوم بناء هذه المؤسسات وقضى على كل أشكال الحيف في العلاقات الدولية؟
اللغة هي الحضارة
يرى الكاتب أنه رغم وجود مظاهر الحيف في بعض العلاقات الدولية، فإن العالم يحاول البحث عن مقاسات ومعايير محققة للعدالة الدولية كما تتصورها الدول والثقافات والحضارات الإنسانية، لأن الثقافات صارت أكثر تفهما لبعضها، ولم يعد الاختلاف مبررا للحقد والتحامل على الغير، كما أن تعارض المصالح أوجد تفاهمات بين الدول للحد من النزاعات المسلحة، فالأمن اعتبر حاجة حضارية، وغاية بها يتجسد النمو والرفاهية، أو على الأقل له ما يستحق البحث عنه في المشترك البشري مع مراعاة حساسية بعض الحضارات تجاه بعضها البعض في بعض السلوكات التي ينبغي تفهم الرفض فيها بنفس درجات القبول من طرف الأخرين.
ويضيف “إن العولمة ليست فكرة مقبولة من طرف الكل، لكن الرافضين لها ليس لهم بديل أكثر عقلانية منها، رغم أن حجج الرفض لهم تبدو أكثر إقناعية من المدافعين عن العولمة، مما يعني أن معترك مواجهة العولمة ما زال مفتوحا أمام الكثير من التعديلات لها خصوصا في شقه الثقافي، فالعالم غني بتنوعه الثقافي، ومن غير الممكن القضاء على كل اللغات والإبقاء على واحدة لتسهيل عملية التواصل، فاللغة هي الحضارة، وليست مجرد خزان لها كما يزعم الراغبون في العولمة العنيفة للعالم، بناء على رغبات جارفة تخفي رهانات سياسية للسيطرة باسم الثقافة ووحدة الحضارة البشرية المفترى عليها”.
ويبين المصباحي في كتابه الصادر عن دار نشر إديسيوابلوس، أن اللغات والحضارات يمكنها القبول بالعولمة دون التنازل عن حقها في التميز والتمايز الثقافي، شريطة ألا يكون ذلك مبررا لرفض قيم التسامح والتعاون والتعدد الثقافي في سياق وحدة الوجود البشري وأهمية رفض كل ما يهدده، دون انتزاع حق القوة الفارضة له على الكل، أي دون وصاية أي دولة على أمن العالم كمبرر لخوض الحروب ضد الرافضين لزعامتها لكل دول المعمورة.
هذه الهفوات، في رأي الكاتب، هي ما يعيق تحقيق عولمة القيم، إذ ينظر إليها كأمركة وليس عولمة، وأن معيقات تحقيق العولمة ليست هي الدول الخائفة من الهيمنة الغربية، بل هي الدول القوية اقتصاديا وعسكريا، فهي تقدم صورا مخيفة عما تدعو العالم إليه، وقد زادت الأزمة المالية التي تعيشها أوروبا الناس والكثير من المثقفين نفورا من العولمة، التي اعتبرت الهزات التي عرفها العالم إحدى مؤشراتها، أو مخلفات التبشير بها والتمهيد لها، وهو ما جعل فكرة العولمة محط انتقادات قوية، وصلت حد الاحتجاج الجماعي والدعوة إلى احتلال بورصات الدول القوية اقتصاديا.
مناهضة العولمة
ظهرت حركات مناهضة للعولمة في الدول الغربية وحتى الولايات المتحدة التي بدأت بمراجعة حساباتها الاجتماعية، إذ لأول مرة يفرض على المواطن الأميركي التفكير في أسلوب للتغطية الاجتماعية يستفيد منه المهمشون والمقصيون من الدورة الاقتصادية مما يتعارض مع القيم الأميركية الداعية إلى أن يؤمن الأميركي نفسه بماله واعتمادا على ثروته الخاصة، بعيدا عن أي شكل من أشكال التضامن القسري المفروض في الكثير من الدول الأوروبية، التي طالما افتخر المواطن الأميركي عليها بقدرته على التعويل على نفسه فقط، دون الحاجة إلى آليات الدولة.
والأميركي كان يرى أن الدولة عليها تحقيق رهانات أكبر من تغذية الجياع أو إسكان المشردين والمحرومين وذوي الحاجات الضرورية والملحة، تماشيا مع الاختيارات الليبرالية الكلاسيكية وربما المحافظة التي تدعو المواطن إلى التخلص من فقره اعتمادا على نفسه لا غير.
هنا تصير العولمة أمام تحديات لا يمكن رفعها بدون الاعتراف بصعوبة الامتثال لكل ما تمليه من رهانات اقتصادية ومالية مخيفة للدول قبل المواطنين، لكنها حتما قادمة في سياق التطورات التي يعرفها العالم وهو يتحرك في اتجاه الكوني ثقافة وفنا واقتصادا وحتى سياسة.