الفيلم السينمائي “جان دارك مصرية”

عرض في مهرجان دبي السينمائي الأخير، فيلم «جان دارك مصرية»، وهو فيلم يمزج بين الوثائقي والروائي، وبين الخيال والواقع، تدور أحداثه حول فتاة بدوية تدعى «جيهان»، تأخذها حكايات جدتها عن الأغاني والراقصات الرُّحّل، إلى الحلم في اكتشاف الرقص بعيداُ عن الصحراء، التي رغم اتساع مداها لا شريك للرقص فيها إلا الرمال ونجوم السماء.
وفي طريق البحث عن حلمها تصل جيهان إلى مدينة القاهرة، لتجدها هي الأخرى تعيش على وقع حلم الحرية، فيتقاطع حلم الفتاة بانعتاق الجسد من الاستبداد الاجتماعي مع حلم المدينة بالانعتاق من الاستبداد السياسي، وتصبح ثورة جيهان الذاتية جزءاً من ثورة يناير/كانون الثاني المصرية، ولكن كما الثورة تُختطف وتضيع بوصلتها كذلك تختفي جيهان ويضيع أثرها في القاهرة، ومن لحظة الاختفاء تلك تبدأ المخرجة إيمان كامل فيلمها ورحلة البحث عن جيهان، حيث تعثر في كوخ صحراوي منسي على المذكرات الشخصية لبطلتها وتحاول اقتفاء أثرها عبر رفيقات دربها إلى الحرية.
منذ البداية تضعنا المخرجة في حيرة من أمرنا بين الحقيقة والخيال في ما نراه، فتبدأ الفيلم كما لو أنها تروي حكاية أسطورية: «كان يا مكان، حصل ولا ما حصلش، قصة فتاة بدوية تعيش مع جدتها…»، ونظل كمشاهدين طوال الفيلم نطرح السؤال على أنفسنا عن حقيقة جيهان، هل هي شخصية من لحم ودم؟ أم هي من بنات أفكار الكاتبة والمخرجة؟ نتابع الأحداث في ما بعد ونكتشف أن جميع النساء التي التقتهن المخرجة هن شخصيات حقيقية ولسن ممثلات محترفات، وحده السؤال عن «جيهان»، الغائبة الحاضرة في الفيلم، يبقى معلقاً حتى النهاية.
الفيلم يتمحور حول مجموعة من الفتيات من منابت مختلفة واهتمامات ومهن متنوعة، المشترك بينهن جميعاً هو حلم الحرية وتمسكهن بقوة به رغم كل المصاعب، أما جيهان فهي الخيط السري الذي يربط بينهن ويربطهن بالفيلم أيضاً. وهكذا تأخذنا الكاميرا في رحلة في الزمان والمكان، نمر معها على حيوات تلك النسوة لنمر على حياة جيهان والسر وراء اختفائها، ويتتابع ظهور الصديقات، حسب تسلسل ظهورهن في حياة جيهان، أو حسب تسلسل الثورة المصرية، فحكايتهن هي حكايتها وحكايتها هي حكاية «مصر الثورة»، وهكذا تظهر الفتيات في الفيلم على التوالي: نهلة، ريم، نادية، سارة، سلمى، دينا وندى.
نهلة: رفيقة جيهان الأولى في المدينة ودليلها إليها، الفنانة بطلاء الأظافر الأصفر، تمردت على سجنها الداخلي الصغير قبل أن تتمرد على السجن الكبير وتشارك بالثورة، نزعت نهلة حجابها ولم تنزع إيمانها وشعرت بعدها أنها أكثر حقيقية وحرية، فالحجاب بالنسبة لها كان أحد مظاهر السجن الوهمي الذي يحاصرها، اليوم تشعر نهلة بأنها فراشة ملونة بكل الألوان والأصفر أكثرها بريقاً. تغمض نهلة عينيها وكأنها تنظر إلى داخلها، وعندما تفتح عينيها وتنظر عميقاً في عين الكاميرا، ترتسم على وجهها ابتسامة رضا وسكينة
ريم: الفنانة المسرحية التي معها ستكتشف جيهان متعة العمل مع المجموعة والتواصل مباشرة مع الجمهور، معاً سينقلان أجواء ساحة التحرير إلى المسرح، ويقدمان عرضاً راقصاُ عن الثورة.. لا يهم الخطأ، المهم مشاركة الآلام والأحلام، طوبى لمن يسرد وطوبى لمن يصغي، إنه المسرح
نادية: المصورة التي تقف وراء الكاميرا، لا نرى وجهها ولكننا نرى صور جيهان من خلال عدستها، والصورة في الفيلم هي تثبيت للحظة، لحظة تتكثف فيها المشاعر والأحداث، لحظة للتأمل وطرح الأسئلة. ابتسم…فأنت أمام العدسة، قد تتوقف الثورة برهة لكن حركة التاريخ لا تتوقف
سارة: هي زميلة الرقص، معها ستبدأ جيهان باكتشاف الرقص المعاصر، الرقص بالجسد والوجه والعينين، بالحركة حيناً والتوقف أحياناً، فكل الأدوات متاحة للتعبير عن حالات الفرح والحزن والألم والنشوة، سترسم سارة على الورق رقصتها ثم يتبعها جسدها. لا مرآة في صالة الرقص، فالروح عندما ترقص لا تُرى، ولكن في الزاوية هناك نافذة تكفي ليميل عليها الجسد ولا يسقط. ترقص سارة ويرافقها صوت المخرجة مردداً:
«سأرقص للحرية وللفرح للحقيقية والحب
للخلف والأمام للماضي والمستقبل
سأسطع فقدري أن أسطع
أستمع للماضي وأراقب الخفي
سأكون فجراً لليلة المليون سؤال»
سلمى: هي رفيقة النضال والتظاهر، معها ستتعلم جيهان مفردات الثورة، حيث لا مدارس تُعلم مبادئ الثورة ولا أساتذة يشرحون السبيل والمنفذ، تقول سلمى: «لم نتعلم التعامل مع الثورة، حتى المحلل النفسي فرويد لم يحك لنا عن الثورة». ستتعلم جيهان ومعها سلمى في ميدان التحرير أبجديات الثورة وستسجلان انتصاراتهما الصغيرة وعثراتهما على الفيديو وتنشرناه على اليوتيوب.. هي الثورة… وهما شاهدتان عليها.
دينا: هي المغنية المشهورة دينا الوديدي، ستعلم جيهان أن الفن ليس عاراً، ستأخذها معها بين النوتات وستقفزان معاً فوق أوتار الغيتار، ستغني دينا وسترقص جيهان وفي الوقت نفسه ستقوم المخرجة إيمان برياضة تا يشي للاسترخاء.. في النهاية كل فنٍ مباح لتخطي الألم
ندى: هي رفيقة الزنزانة.. تقاسمت مع جيهان حلم الثورة وكابوس الاعتقال في ما بعد.
 بعمر 26 سنة ستكتشف ندى أنها لم تعش، وكل السنوات كانت هباءً قبل الثورة، تقول: «كنت بعيدة عن الدنيا، ولما صحيت وجدت رفاقي معتقلين أو خارج السجن أو قتلى». الاعتقال دام فترة قصيرة، لكن آثاره لم تشف ندى منها فهي مازالت ترى كوابيس السجن في الليل، وفي النهار تنتابها نوبات ذعر وتبحث دائماً عن حائط تتكئ عليه ويحمي ظهرها. وعلى الرغم من أن ندى في السجن نجت من الاغتصاب الجسدي لكن روحها لم تَسلم من الاغتصاب، ومع ذلك يعتبر وضعها أفضل بكثير من أوضاع سجينات كثيرات تعرضن للاغتصاب داخل المعتقلات، وهذه الحالات يسجلها الفيلم من خلال رسوم فنية تمر بين المشاهد السينمائية، رسوم لنساء عاريات وملتصقات ببعضهن في حالة من الخوف والهلع بعد انتهاك الجسد:
«انتصرت في معركة لأنني انضممت إلى حرب بلا سلاح
جرحوني بالآلام وجرحوني بالخوف
كنت أغني عندما يضربوني وكنت أحلم
كنت أتذوق دمي ودموعي وبقيت بلا سلاح
رموا بي في قبو
اغتصبوا جسدي واعتقدوا أنهم يغتصبون روحي
لكنهم لم ينجحوا»
 بعد لقائها مع ندى تختفي جيهان، ويطاردها رجال العائلة من أجل غسل عارها، فهي استطاعت التمرد على القوانين الذكورية الصارمة، حين حررت جسدها بالرقص وحررت روحها بالثورة، ومع أنها خرجت منها مغتصبة الجسد ولكن روحها لم تهزم.
 وعندما تعثر القبيلة في النهاية على جيهان ستحكم عليها بالموت وحيدة في الصحراء تحت الشمس الحارقة بلا ماء ولا طعام. ستحرقها الشمس كما أحرقت النار بطلتها جان دارك لأنها طالبت بالحرية، وجيهان هي «جان دارك المصرية»
المصرية» وهي كل تلك النساء اللواتي روى الفيلم حكاياتهن.
 وعندما يقترب الفيلم من نهايته ستعترف المخرجة إيمان كامل بأن جيهان شخصية سينمائية وستقول: «جيهان لم أعثر عليك، لكن عثرت على روحك في كل تلك النسوة، سلاحنا الوحيد الآن أن نروي قصتنا»، وهذا ما فعلته المخرجة عندما تركت بطلاتها يروين حكاياتهن، وحين روت هي أيضاً حكايتها من خلالهن. وكأن وجه «جيهان» هو انعكاس لوجه «إيمان» في المرآة، وجه تغضن مع العمر لكن روح الثورة مازالت شابة فيه، حتى تشابه اسميهما لم يكن بمحض الصدفة.
 وينتهي الفيلم بمشهد تظهر فيه بطلاته واحدة تلو الأخرى: نهلة، ريم، نادية، سارة، سلمى، دينا وندى
ومع أن وجه إيمان المخرجة وكاتبة السيناريو غاب عن المشهد النهائي، لكنه كان حاضراً سينمائياً طوال الفيلم وكانت حكايتها الشخصية تملأ الفراغات بين حكايات بطلاتها
أما الوجه الغائب الحاضر فكان وجه «ماهينورالمصري» التي حضرت بصوتها فقط، وكانت بطلة الفيلم المجهولة والوجه الأقرب لجان دارك المصرية، فهي فقدت عينها عندما كانت تقود المظاهرات في ساحة التحرير، في الفيلم نسمعها وهي تهتف:
«عل وعل الصوت
ثورة ثورة حتى النصر
ثورة في كل شوارع مصر»
 ومن قال إن الثورة تهزم، صحيح أنهم قتلوا «جان دارك» ومات الجسد في فرنسا قبل عقود، ولكن بقيت الفكرة وبقي الرمز عابراً للبلاد والأزمنة.

بقلم: أية الأتاسي

Related posts

Top