مبدأ حياد القاضي والاستثناءات الواردة عليه

أقر دستور المملكة لسنة 2011، مجموعة من الضمانات التي تكفل استقلال القضاء، وتكرس ثقة المتقاضي في السلطة القضائية، وهذه الحماية تجد تطبيقاتها في مجموعة من النصوص القانونية، لعل أهمها قانون المسطرة المدنية وقانون التنظيم القضائي، من خلال التنصيص على مجموعة من المبادئ، ضمنها «مبدأ حياد القاضي» حيث يعد أمرا جوهريا في سبيل إحقاق العدالة.
ويقصد بحياد القاضي، اتخاذ القاضي موقفا سلبيا من أطراف الخصومة، ضمانا لعدم تحول القاضي إلى حكم وخصم في الآن نفسه، فتختل موازينه تبعا لاختلاف «وزن» الخصوم و يصبح طرفا منضما يساند خصما على حساب الآخر..
ولا يقصد بحياد القاضي عدم تحيزه لأحد الخصمين على الآخر، فهذا أمر بديهي تستلزمه وظيفة القضاء منه، وإنما المقصود من الحياد أن يقف القاضي موقفا سلبيا من كلا الخصمين على السواء، بمعنى أن دوره يقتصرعلى تلقي الأدلة التي يتقدم بها الخصوم وفقا للقواعد والنظم التي يستلزمها القانون، ثم يتولى تقديرها في حدود القيمة التي يعطيها المشرع لكل دليل، فليست وظيفة القاضي المساهمة في جمع الأدلة للخصوم، كما أنه ليس له أن يستند إلى أي دليل تحراه بنفسه بعيدا عن الخصم. بالإضافة إلى أنه يتوخى من القاضي ألا يتأثر بالمؤثرات الداخلية الذاتية ولا بالمؤثرات الخارجية ليفصل في النزاع بكل موضوعية.
فالقاضي لا يجوز له أن يقضي بناء على علمه الشخصي، إذ الحياد يتجلى بوضوح في عدم القضاء بعلمه الشخصي عن واقعة من وقائع الدعوى، والعلة في ذلك أن علم القاضي هنا إنما يكون دليلا في القضية، ولما كان تقديم الدليل قاصرا على أطراف الخصومة المدنية، فبمفهوم المخالفة ليس للقاضي أن يستحدث دليلا غير صادر عن الخصوم في الدعوى، يضاف إلى ذلك أن للخصوم حق مناقشة الأدلة المقدمة في موضوع الدعوى، فإذا ما كان للقاضي أن يحكم بمقتضى علمه، فانه بذلك ينزل منزلة الخصوم، فيكون خصما وحكما ـ في الوقت نفسه وهذا لا يجوز.
كما أن الدور السلبي للقاضي يقتضي منه تلقي طلبات ودفوع الخصوم وتقديرها، دون أن يكون له أن يكمل الناقص منها، ولا أن يفسر المبهم فيها، سواء تكون له هذا العلم في الجلسة التي ينظر فيها هذا النزاع أو خارجها. كما أن ليس له أن يستند إلى أي دليل تحراه بنفسه بعيد عن الخصوم، بل يمنع عليه أن يستند على واقعة حاسمة في الدعوى إلا إذا قدمت له وفقا للإجراءات التي يقررها القانون.
وعليه، فالحياد صفة يتطلبها العمل القضائي لتحقيق الأمن القضائي، ذلك أن الخصوم عندما يرفعون أمرهم ونزاعهم للمحكمة، فإنما يقصدوا لها حيادها، ولان عدم حياد القاضي يعني تحيزه .وإذا تحيز القاضي فقد موضوعيته وفقد عدالته .فلو شعر المتقاضي لحظة من الزمن أن القاضي سيتحيز لخصمه، ما قصده ورفع دعواه أمامه.
ويجد هذا المبدأ سنده التشريعي في مجموعة من النصوص القانونية التي تؤطره، لعل أهمها الفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية الذي يلزم القاضي بالبت في حدود الطلبات دون أن يسمح له أن يغير تلقائيا من موضوع أو سبب هذه الطلبات، ويفصل دائما طبقا للقوانين السارية على النازلة ولو لم يطلب منه الأطراف ذلك. هذا بالإضافة إلى المادة 40 من النظام الأساسي للقضاة فيما يتعلق باليمين التي يؤديها القاضي عند تعيينه لأول مرة في السلك القضائي وقبل الشروع في مهامه، إذ نجد أن الحياد أول ما ورد في هذا القسم وفق العبارة التالية : «اقسم بالله العظيم أن أمارس مهامي بحياد وتجرد وإخلاص وتفان …» ولتكريس هذا المبدأ، أوجد المشرع المغربي مجموعة من النصوص تشكل تطبيقات لهذا المبدأ نذكر منها، تلك المتعلقة بتجريح القضاة (المادة 295 من قانون المسطرة المدنية) و مخاصمة القضاة (المادة 391 من قانون المسطرة المدنية).
لكن حياد القاضي في بعض الأحيان، قد يصبح عبئا على العدالة، ويتحول من وسيلة للعدل إلى أداة للظلم وطريقا معبدة للطرف القوي لسلب حقوق خصمه أمام أنظار القاضي وبمباركة منه، فيغلف الظلم بغلاف الحياد والمساواة ليكتسي شرعية قانونية وقضائية.لهذا كان من الطبيعي والبديهي أن يضع المشرع استثناءات لمبدأ الحياد تتيح للقاضي أن يتخلى عن حياده السلبي ويتدخل بشكل إيجابي يضمن إعطاء كل ذي حق حقه، فما هي مظاهر خروج القاضي المدني عن مبدأ الحياد؟
كما سبقت الإشارة، فإن القاضي لا يتدخل أثناء مقارعة الحجج وتبادل الطلبات والدفوع بين الخصوم، ولا يساند أحد الأطراف سواء في الإثبات أو في إثارة نقط قانونية ترجح كفته وتقوي مركزه، لكن لهذه القاعدة استثناءات تتيح للقاضي في بعض الأحيان التدخل في صنع الدليل تارة، وإثارة بعض النقط القانونية تلقائيا تارة أخرى، وتوجيه الإنذار لأحد الخصوم قصد تصحيح المسطرة، وهو أمر لا يتم إلا بوجود نص قانوني يسمح بذلك لكونه استثناء عن مبدأ حياد القاضي، ومن بين هذه الإستثناءات نذكر:

القضايا المتعلقة بالنظام العام

يتعين على القاضي أن يتدخل في القضايا المتعلقة بالنظام العام فيثير من تلقاء نفسه كل ما يرتبط به حتى لو لم يثره الأطراف، لان الأمر لم يعد يتعلق فقط بمصالحهم الخاصة ومن ثم لا يحق لهم التنازل ضمنيا عن طريق إغفال إثارة القواعد لقانونية المرتبطة بالنظام العام سواء كانت موضوعية أو إجرائية .
ومن ثم يمكن للقاضي أن يحكم بأكثر مما طلب منه في تعويضات حوادث الشغل، كما يتعين عليه أن يرفع مبلغ الأجرة المستحقة للأجير لتتناسب والحد الأدنى للأجر إذا كانت أقل، كما يمكنه أن يتدخل لتعديل المبلغ المستحق بمقتضى الشرط الجزائي .
وإذا كانت القضايا الموضوعية المرتبطة بالنظام العام تشكل استثناء في القانون الموضوعي، فإن الإستثناء ينقلب إلى قاعدة في مجال التقاضي، فيحق للقاضي أن يثير من تلقاء نفسه أغلب القواعد المنظمة للتقاضي مثل الصفة والأهلية والمصلحة والإختصاص النوعي وآجال الطعن وتحديد البيانات غير التامة أو التي وقع إغفالها أثناء تقييد الدعوى.

اليمين المتممة

يقصد باليمين المتممة اليمين التي يوجهها القاضي لأحد أطراف الدعوى لإتمام الدليل الناقص، ولهذا سميت بالمتممة، إذ يؤمر بها من أجل تكملة حجة أدلي بها تراها المحكمة غير كافية في إثبات الوقائع والتصرفات المراد إثباتها، فتكون بذلك وسيلة يلتجئ إليها لإقامة الإثبات.
ومن ثم فإن القاضي يتدخل في صنع وسيلة الإثبات لفائدة من كان دليله ناقصا، ليتخلى بذلك عن حياده ويرجح كفة طرف على آخر ويتدخل بشكل إيجابي في الخصومة .لهذا فهي استثناء على مبدأ حياد القاضي، لذلك يتعين التعامل معها بحذر فلا يجب التوسع في الإستثناء.

< عبد الكريم الشخش باحث في القانون

Related posts

Top